(حبيبتي)! .. بقلم أ.عبدالله بن محمد الأسطل


تم النشر 21 يونيه 2018


عدد المشاهدات: 2231

أضيف بواسطة : عبدالعال محمد


مُنذُ أسابيع ثقيلة توقفتُ عن كِتابة المقالات وعِندما سُئلت؟ أجابت روحي: (أُمي قد استنزفت جميع مشاعري)! لم أستطِع أن أكتب، فأنا كعادتي؛ لا أكتُب حرفًا إلا بحضور القلب والليل وغالبًا القمر! كانوا يسمون قوس القزح ثعبان العقود، والسماء البحر الأعلى، والبرق توهّج المطر، والصديق قلبي الآخر، وبدلًا مِن نغفر لكم؛ ننسى! والأم: (الحياة)! تكلمّ شيخي الحبيب أبي مُعاذ (سلمان العودة) -فك الله أسره- في كتابه الطفولي البريء (طفولة قلب) عن أمه وقلبها الرقيق وكتابتها للشعر -رغم أنها أُمية- وقد كتب أبيات لها ومِنها: اليومْ أنا ضَايقٍ صَدْري .. كثرتْ همومي وأنا حَيّةْ دَمعي عَلى صَابري يجري .. والكبْد بالنار مشوية سلمان ياليت من يدري .. عن حالك اليوم شخصيةْ كان يتشبث بكلمات أمه (نورة) التي كانت تُحبه حُبًا قلبيًا! فكان كثيرًا ما يمتد نحوها؛ كيدِ من خلال الموج مُدت لغريق، فتراه في سواعد الإخاء يذكرها وفي السنابات اليومية يدعو لها! فدائمًا ما تُسعفنا الأم عند الحيرة! أُحدثكم عن القصص التي نادت حبات دموعي! قرأت أن (أيه آمونز) يقول: (توفي أخي الذي يصغرني بسنتين ونصف، ولم يكن تجاوز السنة ونصف السنة.. وجدَت أمي بعد أيام قليلة من موته آثار قدميه في الباحة، وحاولت بناء شيء حولها لتقيها هبوب الريح)! تلك هي الصورة الأدبية الأقوى التي عرفتها! كانت الاُم تكشف عن نتائج البحث على الشيخ قوقل خلف طفلها، فوجدته قد كتب سؤال: (أُمي رأسها يألمها ما الحل)؟! حينها تفاجأت الأُم؛ لتخدشها أظافر الشمس وتثقب أبوابها رياح الطُهر، إنه يُعلمها الوثب على عُنق الحُب النقي! (بول هِنري) من أبرز عُلماء بلجيكا حين حضرت أُمه جلسة مفتوحة لِمجلس الشيوخ بدأ خطابه: (أُمي، سيداتي ساداتي) إنه استثناء عظيم؛ يصيد قلبك! أعجب كثيرًا من شخص لم يتوقف عن إشعال فتيل الدهشة بي، حتى يأتي بخبر عبقهُ الرحمة وفحواه الحُب، ففي ظني أعظم ما قرأتهُ عن الأُم موقف الأديب الأريب (مُزمل آزادي) عندما أرسل رسالة لوالدته بدأها هكذا: (.. إلى صغيرتي السبعينية)! يقفِز ها هُنا إحساس المَرْح مِن شُرفات روحي لبوابات الكلام دون إستئذان، أذكُر أني كُنتُ بإنتباه شديد أتصفح ذكريات العائلة التي كانت في بيتِنا القديم وصورها ومسامرات الجلسات؛ لأقول: هُنا ضحِكت أُمي، هُنا حزنت أمي! وكُنتُ كلما حدثتُها تساقطت عن قلبي الذنوب! زُرت صديق لي، فوجدته قد صنع بِروازًا واضعًا به (روب) أمهُ، رغم بساطة المشهد وبراءته إلا أنهُ كثير بأمه وكأنها ترمي إلى عصافير قلبه حبات الحُب ليتبعها في كُل مكان، وإن سألت عن عجيب صُنعه فأقول: لأنه أيقنّ أنها هيّ التي تُجيء قبل البِدء وقبل الكُل وقبل القلبِ وقبل القبلِ، فلا أعلم كيف يعيش في دنيانا من فقد أُمه، فلو كان بمقدوري لأهديته شطر من سعادتي بها، فهرمون العطاء يٌسافر من قلب لقلب وعله يستقر في قلب من فقد أمه! فهو لا يراها إلا في خيالاته السادرة! كانت أمُي دائمًا (تُساعدني) بحذف الألف لتُسعدني، ففي كُلِ صباح.. كُنتُ أشكُر الأشياء التي تأتي مِن تِلقاء نفسها؛ كأنفاسها وكوب الشاي. كتب إلى صديقه: أبقى الله جسد أُمِك قُرب جسدك فتشبث بها تشبثُكَ بأنفاس العيش، وأما صاحبُك فقط فقد أمه! فكتب إليه واصديقاه: من البِر بأمكّ أن لا تقول فقدتُ أمي، نعم.. لا تقولها! كُل ما في الأمر أن أمك خلعت جسدها لتُحلق بروحها عاليًا حتى تُرافقك في كُلِ مكان؛ فالجسد يحول بينها وبين الملكوت بجانبها حيثُ أنت، بكُلِ صدق أحبتك أمك وأحبت أن تكون معك! فالأُم تُعلم ابنها كُل شيء في الحياة إلا العيش بدونها! حزين وجِدًا على كُلِ شخص فقَد أمه، بالضبط.. كحُزن العدد الأخير لصحيفة عاشت مِئة عام! فاللهم كُن بجانبه، أغث روحه بغيمة كرمك؛ فصلاة روحه كانت كُلها إستسقاء، أما أنا: فإني قد تعثرتُ بأمي فكانت أكثر عثراتي وقوفًا، كانت -عليها سحائب الحُب- تنصُت لِكلام سيدي -صلّ الله عليهِ وسلم- وكأنه لها، وتقول: كُل حديث أسمعه أجتهِد أن أفعله! سمعت مني حديث أمنا الطاهِرة عائشة: (لا ترُدي المساكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة)، ومن حينها وأنا كالمسكين عندها، تُقربني وتُدفئني بحنانها ولباقة قلبها وأناقة روحها! سمعتُ منها همست قُرب؛ فقد قامت بين يدي الله تدعوه، كانت تجعلني أنتمي إلى الطُهر.. ذات بالروح.. جوهر بالحُب.. متأله بالعقل، واحد بالكثرة، فانِ بالمس.. باقِ بالنفس، برىء بالفطرة.. أدمنتُ في عيناها فرحة طفل يلهو بضوء الصُبح في أيام العيد، فطالما أحبت عيناي بقولها: (الخضراوتان)! إنها مِنك ومن جمال مبسمك! كانت كُلما تذهب لزيارة جدتي؛ تتقلص أعداد الملائكة الذين يحرسون المنزل، الذين يباركون صلواتها البريئة، ويحملون اسمي المستلقي على راحة كفيها الدافئتين! أما عن أُمي: فإنها لم تقرأ الجامعة ولم تصل الثانوية، لكنها تُجيد قراءة ملامح الغيوم والشتاء.. تُجيد رائحة قلبي وأحزاني، إنها تُجيد بعث الرسائل العاجلة والساخِنة إلى الله، تُجيد التمتمات الدافئة الصباحية المُشتركة مع زقزقات العصافير عند تلاوة أذكارها، تحفظ أسماء الله وتُعايشها دائمًا، وتحفظ خُطب الشيخ كشك كُلِها.. تحفظ بعض من دروس نبيل العوضي وتُحدثنا بها عند كُل غروب، لا تفوتها أوقات الضُحى والسّحَرْ، تُجيد خلط عجينها بالحكايات الطفولية الدافئة مع الأهازيج الجميلة، إنها تُتقن إستنطاق الشجر والعصافير وأحزان أولادها وآهات أبي! أمُي التي -وكُلما سرقتني الإنشغالات الطويلة عنها- تبعثُ ظِل الملائكة كُل يوم من بيتنا لتُعيدني مُكبلًا إليها، حين أحاطتني بدعائها وتعويذاتها العصّية على كُل شيء: (أستودعك ربّي)




- انشر الخبر -