(61 قمرًا) بقلم عبدالله بن محمد الأسطل


تم النشر 17 مايو 2018


عدد المشاهدات: 2216

أضيف بواسطة : عبدالعال محمد


 (61 قَمرًا) أما قبل: راودَني تساؤل مُلِح: (وكيف سَنتحرى الليلة القمر وقد صعدت للسماء أرواح 60 قمرًا)! ألن يختلِط علينا الأمر..؟! فلك عليَّ أيها القلم أن لا أفشي سرَّك، ولكن أطعني في الكِتابة عن هذه الأقمار ال60، ولأن الذاكرة ستكون خالية تمامًا من أسماء الرفاق وقصائد الحنين وذكريات المناخ وضحكات الأصدقاء القدامى وأصداء النداءات المبهمة، لأجل ذلك سيكون نعشي خفيفًا، ولفرط خفتي، قد تظنون أنني تسللّتُ من الكفن وهربت، لا تقلقوا.. أنا هنا على أكتافكم، واستغرب مثلكم من خفتي المريحة، عندما تهيلون عليّ التراب خذوا قبضة من تراب قبري، وعندما تعودون، انثروا التراب في فناء البيت وعندما تستغرب أمي قولوا لها: (لقد عاش مختنقًا، وهذه أول أنفاسه في القبر)! هذه الكلمات كانت ستكون رسالة شهيد لأهله؛ لكن الحياة أصابته عشرات المرات؛ ولم يحظى بالشهادة! فبكل ما في قلب أم الطفلة (ليلى الغَندور) من آهات الألم وهي تستقبِل طفلتها الشهيدة ذات العيون الزرقاء مِن حُزن، بكُل قلب هرِم من نقاء يطغى على تنميق الكلمات، بكُل جمال من ابتسامة شهيد (مليونية العودة): معتصم أبو لولي، -وليتكّ قبل أن ترُزق هذه الخاتِمة؛ عَلمتنا كيف الوثب على عُنق الجمال! بكناياتك المتهدّجة بين ضفاف (الإخلاص)!- بكل ما في صوتْ ناصر السعيد من حنين وهو يغني (رمضان يا نفح الجنان)، بكل ما في دموع أخت من حرارة وهي تنظر إلى مكان أخيها الفارغ على مائدة سحور أول ليلة مِن رمضان، بكل ما في حب من ذاك الصديق الذي تبسم لي جابرًا الغياب: سماؤنا واحد، إذًا لست ببعيد، بكل تلك الكلمات المنحوتة مِن جدار الصبر من أم صديقي الشهيد حينما قالت لي: لا تقطعنا! بكل قهر تلك السنبلة التي تشبث بها الجرد (سوريا)، بكل ما في قلب ذاك الأب والذي كان يحمل ولده وهوّ ينظر إلى الفواكه المرصوفة ولا شيء في الجيب إلا الخواء، بكل ما في نظرة أب من انكسار عندما ودع ابنه الشهيد وهو يهتف للسماء: (بدي سعيد يقضي معنا رمضان يا الله)، بكل إبتهالات الحمد وتسبيحات الشُكر من صديقي المُصاب، بكل هذا يحل رمضان، فيا رب رمضان اغفر واجبر فقد اتسع الكسر وعز الجابر! فبإيماء الحُزن ولغة الآه، مّررن الشهيد بين أزقة غزة، كرجُل أعمى يتحسس ها هُنا وها هُناك حتى وَجد: شَهيدين إخوة، وشهيدين أب وابنته، وشهيد أمس كانت خُطوبته، وشهيد اليَوم عيد ميلاده، وشهيد وحيد أهله، وشهيد طالِب توجيهي، وشهيد بُتِرت قَدميه في حرب 2008، وشهيد عيد ميلاد ابنه الأول جاء لهُ بعد 9 أعوام، ولكٌل شهيد قصة وللحِكاية بقية! وللبَقية؛ أنفاس معدودة فقط! فهُم يطلقون الرصاص؛ والله يصطفي ويختار! فأنتّ عِندما تذهب إلى أماكن مسيرة العودة، السؤال الأكثر تِردادًا لك حينها: (في شُهدا..)؟! تستَمِع لهذا السؤال يتردد صداه على مسامعك -عشرات المرات- حتى أنه يكاد يخدُش جدار قلبِك فيهدمه! إستفهام يبحث عن تفاصيل الإخلاص.. وإن كان الجواب؛ نعم! تجد حبات من الدمعات توزع على ضحكات مبتورة، وإن سألتهُ عنها؛ يقول: لا لا.. هذه من الغاز المُسيل للدموع! خلف صوتِك المُهتز وأنت تُعبِر كلمة شائكة في حلقِك (الله يتقبلو..)! مُرمقة مع آه الصامتْة! لكنها في حضرة الغَزيّ؛ تُرافقها أمنية، لأن في ظنهم أن الشهيد كالثمرة إن نَضجت قُطفت؛ بينما هم لم ينضجوا بَعد! حتى إن أول مَن اِستخدم (...إلخ)؛ رجلٌ كتب كل شيء ولم يَصل! وحقيقةَ أول من استخدم (لا للمُستحيل)؛ رجُل غَزيّ فَعل كُل شيء كي يصل؛ ليصل بشهداء وجرحى! لأن يقينهم الراسخ أن يوم المعادِ قريبٌ كيومِ المعادْ..! حتى غيماتُنا لم تعُد حُبلى، فَشهداء مليونية العودة -تقبلهُم الله في آفانين رضوانه- قد استنفذوا مطر هذا العالم بأفعالهم! وكُلما اتسعت الرؤية ضاقت العِبارة! ككلمة (شهيد)! فما أوسع الرُؤية وما أضيّق العِبارة! فإلى كل من وجد في صندوقه الوارد رِسالة تعزية، إلى الوحيدين في هذه العالم والمتعبون حد التعب الذين لا يملكون من يربت على قلوبهم المُنهكة، إلى الضاحكين وفي قلوبهم سنين وجع، إلى المشردين والضائعين، إلى من يتوب ويعود ويتوب ثُم يعود، إلى العيون التي يكاد الحزن أن يقتلها.. إلى الأرواح المنكسرة، وإلى كل ما هو وحيد وبائس على هذا الكوكب، وإلى كل من يحتاج غمرة يطبطب بها على أوجاعه! ها هو رمضان قد جاء ليكون لك ملاذ وجمال ومَرْح وسعادة! فقد أرسل الله لك نورًا يتسلل بين ثنايا روحك كي يحييك! أما بعد: ألا إن الوصول قبل الحصول، لذا انفر من لمعة الأسماء واقترب من أصل المعنى؛ تكن معنيًا بقول الكريم الجميل (إني جاعل)، واستند على العادات لتحقق قفزة التفرد، وتحولق مع نفسك وروحك في كل ليلة لتستكشف ذاتك وتصلح نفسك ثم تخلص من أرضيتك بتوبة سماوية تدنيك من خالقك.. ثم بعدها أعلن توبتين: الأولى أن ترجع إلى نفسك اللوامة، وبعدها ترجع من نفسك إلى الله! فها قد واتت الريح، أنزل أشرعتك إلى جزيرة الأمان بعد تيه طويل! ثُمّ إن أذنت أدر قلبك لفلق الذكر الكثير ولو حُظيت بوقت وفير؛ اِطلع على كتاب (إعجاز التلاوة) للشيخ: محمد شملول؛ لتجد الحلاوة من صحوة الروح وكي تتنهد تنهيدة عذبة، ثم وأنت تُعانق الرجاء في لحظات الدُعاء لا تنسى أن هناك صوتْ يُدندن بداخلك قد أصغيت، فنوديت: (أبشر فقد ظفرت بلحظة في رحابه)! فاللهم سفرًا إليك ملتمسًا ريح قربك؛ فاقبل يا رب عودتنا واكتب لنا في قدوم رمضان أن نحياه بالرمضان الذي أردت والصوم الذي لك والتصق بجلالك بقولك (الصوم لي) وعلى هذا العهد نرتجي منك الظمأ بسقياك ليكون الصوم ارتواءة من حر المعصية، وتظللًا في وافر رحمتك ورضوانك!




- انشر الخبر -