تقدير موقف سياسي عام منير شفيق


تم النشر 11 ديسمبر 2017


عدد المشاهدات: 1667

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


مدخل
العالم الذي تشكل في القرن العشرين، بالرغم من حربين عالميين وحرب باردة، غير العالم الذي تشكل في القرن التاسع عشر، أو الذي سبقه. أما العالم الذي أخذ يتشكل بعد العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين سيكون، كما يبدو حتى الآن، مختلفاً اختلافاً نوعياً عن عالم القرن العشرين.

ويرجع هذا الاختلاف إلى عدم وجود سيطرة عالمية لدولة كبرى منفردة أو لدولتين.. فظاهرة العالم متعدد القطبية أخذت تتشكل بسبب تراجع السيطرة الإمبريالية – الغربية، وبسبب بروز قوى دولية مثل روسيا والصين والهند، وتعاظم أدوار قوى إقليمية مثل إيران وتركيا والبرازيل وجنوبي أفريقيا.

وقد اتسمت ظاهرة تعدد القطبية باللانظام والفوضى والسيولة. الأمر الذي أوجد عالماً مضطرباً، مرتبك الاستراتيجيات والسياسات. وليس من السهل توقع مستقبله، هل سينتهي وضعه الراهن إلى بروز قوة دولية، أو أكثر، ليصار إلى تشكل نظام عالمي جديد يتسم بملامح دولية متعددة القطبية مستقرة، أو شبه مستقرة، ولو لردح من الزمان، أم أن وضعه الراهن سيستمر بلا نظام، وفي حالة فوضى واضطراب وسيولة، لزمن غير منظور. وهذا الأخير هو الأرجح.

أمريكا وتراجع هيمنتها
فأمريكا التي تزعمت الإمبريالية الغربية، ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، أخذت بالتراجع المشهود خلال السبع سنوات الماضية. وقد جسد عهدا باراك أوباما هذه الحالة من التراجع والإرتباك وفقدان السيطرة. فقد أسماها أوباما نفسه بـ"القيادة من الخلف". أما ماذا يقول دونالد ترامب عن عهدي باراك أوباما فلا تسل عن النقد إلى حد التجريح والتعرية. وهذا هو رأي عدد كبير من المحللين السياسيين الذي وصفوا سياسات باراك أوباما بالضعيفة والمترددة والفاشلة. بل اعتبرت دول حليفة تاريخياً لأمريكا، كالسعودية، بأن إدارة أوباما تخلت عنها. ولم تعد تمثل لها ظهيراً، أو حامياً، بل وتركتها لأقدارها، كما حدث في السبع سنوات الماضية من انتكاسات لمحور "الاعتدال العربي"، ولا سيما مصر وتونس.

على أن سياسات باراك أوباما لم تكن مجرد اجتهادات شخصية تتعلق به، وإنما كانت انعكاساً لمسلسل الانتكاسات التي منيت بها إدارة بوش الابن في العراق وأفغانستان. وفشل الكيان الصهيوني في حربي 2006 و2008/2009، في كلٍ من لبنان وقطاع غزة. ثم أضف الأزمة المالية العالمية التي أطاحت بالعولمة الأمريكية في 2008.

أما في المقابل فقد شهدت أمريكا في عهدي بوش الابن تصاعداً، بمستوى قفزات، في روسيا والصين والهند وإيران وتركيا وجنوبي أفريقيا والبرازيل. الأمر الذي زاد من تراجع الهيمنة الأمريكية- الأوروبية العالمية. وعظّم من أدوار وحركات المقاومة وانتفاضات الشعوب والدول المتحررة في أمريكا اللاتينية وآسيا.

ولهذا فإن ما اتسمت به إدارة أوباما من ضعف وتردد وارتباك وتراجع حاد، كان نتاج ميزان قوى عالمي جديد، وأضف إليه ما أخذ يظهر على السطح في أثناء المعركة الانتخابية الرئاسية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب من اضطراب وفوضى وتناقضات في بنية الدولة الأمريكية، والمؤسسة الحاكمة. بل أن نجاح دونالد ترامب، بما يتسم به من شخصية وصفات، دليلاً بارزاً على ما أصاب الداخل الأمريكي نفسه من عوامل ضعف وشيخوخة وتعرية.

أمريكا في عهد دونالد ترمب
ولهذا عندما تسلم دونالد ترمب اجتمعت شخصيته المضطربة مع بنية داخلية منقسمة على نفسها مجتمعياً وسياسياً ومؤسساتياً. وهو ما يفسر لجوءه للجنرالات لمساعدته وبناء إدارته من جهة، ودخوله في معارك داخلية حادة مع الإعلام ومع تقاليد المؤسسة الأمريكية من جهة أخرى. إضافة خلافاته مع أقرب مساعديه الذين اختارهم.

ثم يجب أن يضاف إلى هذا المشهد الفاجع من وجهة النظر الأمريكية، أيضاً، ما عبر عنه بصورة غير مباشرة، البيان الصادر عن باراك أوباما وجورج دبليو بوش منبهاً من حالة أمريكا. هذا وليس بعيداً منه مجرد لقاء الرؤساء الخمسة السابقين ممن بقوا على قيد الحياة: كارتر وبوش الأب وبوش الابن وكلينتون وأوباما. وذلك بالرغم من كون اللقاء لجمع تبرعات إغاثة لضحايا النكبات الطبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية إلاّ أنه رسالة أخرى بالمعنى نفسه.

يجب أن يلاحظ هنا أن مجموع الخطوات السياسية التي اتخذها ترمب في سنته الأولى منيت حتى الآن بالفشل تلو الفشل وذلك ابتداءً من مشاريع قوانينه ضد الهجرة، مروراً بما فتحه من معركة ضد الاتفاق النووي مع إيران حيث قوبل بعزلة قاسية من قبل روسيا والصين وإلمانيا وبريطانيا وفرنسا.

ثم جاء المؤتمر المدوي الذي عقده في الرياض وجمع له 53 رئيساً عربياً وإسلامياً ليجعله نقطة حشد ضد إيران وحزب الله وحماس، وإذ به يتداعى ويسقط أرضاً مع توجه كل من السعودية ومصر والإمارات والبحرين لضرب الحصار على قطر. الأمر الذي حوّل المعركة إلى معركة ضد قطر. وليس ضد إيران، واضعاً قمة الرياض على الرف. وما زال هذا المأزق قائماً ليشكل دليلاً على فشل سياسات ترامب من جهة، وعلى عجزها عن تجاوزه بالسرعة الكافية من جهة أخرى.

الأمر نفسه حدث مع اندفاعة ترامب باتجاه القضية الفلسطينية، وقد أعطاه عنوان "عقد صفقة تاريخية". وكلف اثنين من مساعديه وهما جيراد كوشنر وجيسون غرينبلات ليقوما بالتحضير لهذه الصفقة. وذلك من خلال جولات مكوكية شملت محمود عباس ونتنياهو والسعودية. ولكنها دارت حول نفسها. ولم تستطع أن تتقدم خطوة واحدة. وقد انبرى الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى أعلان إجراءات استثنائية مضاعفة لمحاصرة قطاع غزة لفرض إنهاء الانقسام من خلال مجيء حماس مستسلمة. وذلك بعد أن يُغرق القطاع تحت ظلام دامس ويحرمه بالكامل من الكهرباء فضلاً عن حرمانه من الدواء والماء الصالح للشرب ومن كل المساعدات الصحية والاجتماعية والمالية التي كانت تقدمها سلطة رام الله إلى القطاع.

هذه الخطوة لم تكن بعيدة عن تفاهم مع أمريكا إذ كان جيسون غرينبلات طالب "سلطة رام الله أن تستعيد سلطتها على القطاع من أيدي حماس" (تصريح في 20 آب 2017). وكانت له تصريحات أخرى سابقة ولاحقة بالمعنى نفسه. ولكن هذه الخطوة سرعان ما أُحبطت نتيجة تحرك قيادة المخابرات العامة المصرية بإجراء تفاهمات مع وفد من حماس برئاسة يحيى السنوار. وقد عُززت بتفاهمات مع محمد دحلان. الأمر الذي وجه رسالة تعرية لمحمود عباس ومن خلاله لدونالد ترامب نفسه، مفادها أن أي تحرك باتجاه القضية الفلسطينية، أو قطاع غزة، يجب أن يمر من خلال مصر، وليس من خلال تجاهلها والتحرك كأنها غير موجودة كما فعل كوشنر وغرينبلات.

هذه الخطوة المصرية أجبرت محمود عباس على العودة إلى مصر، وأدت إلى استعادة مصر للملف الفلسطيني. وقد ترجم ذلك بإعلان بيان مصالحة بين حماس وفتح صدر في القاهرة.

على أن هذا التطور نقل الوضع في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية إلى مرحلة جديدة تختلف عن المرحلة التي سبقتها، سواء أكان من جانب تحرك دونالد ترمب الذي عبر عنه كوشنر وغرينبلات من جهة، أم كان من جانب محمود عباس في محاصرة قطاع غزة، أم كان من جانب وضعية الانقسام الفلسطيني والانتقال إلى مرحلة أولى من مراحل المصالحة بين حماس وفتح من جهة ثالثة. أما ماذا بعد؟ فهو وقوف المرحلة الجديدة أمام مفترق طرق لا تستطيع قوة معينة من أطراف الصراع فيها أن تقرر المستقبل وحدها، أو تكون صاحبة الدور الذي يفرض أهدافه واستراتيجيته.

هنا نجد أنفسنا أمام سمة جديدة مضطربة للوضع العالمي وللوضع الإقليمي والعربي والفلسطيني وذلك، إلى جانب أسباب أخرى، نتيجة تراجع الهيمنة الأمريكية واهتزاز سياسات ترامب.

فعلى سبيل المثال أعلن محمود عباس في أثناء الحوار بين وفدي فتح وحماس حول المصالحة في القاهرة: "أن لا مصالحة إلاّ على أساس سلطة واحدة وسلاح واحد وأجهزة أمنية واحدة وقرار واحد للسلم والحرب"، فيما أعلنت قيادات من حماس أنها ستقبل بأن تتسلم سلطة رام الله كل السلطة في قطاع غزة عدا سلاح المقاومة وأنفاقها وأمنهما. الأمر الذي يضع المصالحة مع الإصرار المصري عليها، خارج التعرض لنقطتي الخلاف، أي عند الحدود التي وصلتها الآن، أو تحت سقف هذه الحدود. مما يعني أننا أمام صيغة مصالحة تتضمن الاختلاف المشار إليه أعلاه وهو كاللغم من تحتها. أما السعي لحسمه وفقاً لشروط محمود عباس فسيعود بالإنقسام إلى مربعه الأول. لكن الأهم أين أمريكا وهذه التطورات؟

لقد اتسمت الأشهر العشرة الأولى من عهد دونالد ترامب بالهوجائية واللاتركيز. وذلك عبر فتح معارك متعددة، في آن واحد، ضد النووي الكوري الشمالي، وضد الاتفاق النووي الإيراني، وضد داعش، وضد حزب الله وحماس، وضد روسيا والصين فضلاً عن معاركه مع حلفائه سواء حول اتفاق المكسيك وأمريكا وكندا (نفتا)، أو الاتفاق الأمريكي- الآسيوي (الإتفاق الاقتصادي عبر المحيط الهادي) (أبيك) أو صراعه مع ألمانيا وفرنسا حول اتفاقية المناخ أو الاتفاق النووي الإيراني، أو مشروعه لعقد صفقة تاريخية حول الصراع في فلسطين، أو موقفه من حلف الناتو.

على أن أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي شهدت تطوراً في تركيز إدارة ترامب على إيران وحزب الله. وذلك من خلال إقرار أربع قوانين في مجلس النواب ضد إيران وحزب الله وسترفع للإقرار في مجلس الشيوخ، ثم سيوقع عليها الرئيس الأمريكي وهي "قانون الصواريخ البالستية الإيرانية" وقانون اعتبار حزب الله بأكمله تنظيماً إرهابياً. وذلك بعدم الفصل بين جناحيه العسكري والسياسي، وقانون ضد استخدام الدروع البشرية، وقانون ضد تمويل حزب الله. وهذه القوانين الأربعة تتضمن عقوبات مالية ومقاطعة. أما الجديد الآخر فيها فكونها صدرت باتفاق أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري. هذا وسيُطالب ترامب أوروبا بالمشاركة فيها ما دامت لا تتعلق مباشرة بالاتفاق النووي الذي شكل الموقف منه نقطة صراع حادة بين إدارة ترامب وكل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، (والاتحاد الأوروبي).

وإذا أضيف إلى هذا التطور الاحتفاء بتكريم ذكرى 241 أمريكياً قتلوا بتفجير ثكنة المشاة (المارينز) في بيروت عام 1983 فإن المتوقع أن تضاعف إدارة ترامب تركيزها على إيران وحزب الله. وهذا ما تؤكده تصريحات تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي وجولته التي شملت السعودية وقطر وباكستان. لقد جاء معززاً للتركيز الجديد المشار إليه بأن تخفف لهجة ترامب بالنسبة إلى كوريا الشمالية في لقاء القمة الأمريكية- الصينية.

من هنا سوف يُواجه محور المقاومة والممانعة، بالرغم مما أحرزه من قوة ونجاحات، في المرحلة القادمة تكتلات عربية وإسلامية ودولية ضده. مما يفترض بأن يُصار إلى اتخاذ خطوات للرد المسبق على ما هو متوقع من سياسات أمريكية في المرحلة القادمة. ولعل اللقاء الأخير بين بوتين والمرشد الأعلى آية الله الخامنئي أولى تلك الردود.

وبالمناسبة ليس بلا دلالة أن تتجاوز أمريكا ما يمكن أن تمثله روسيا والصين من منافسة دولية كبرى لها، وتنتقل إلى أن تصبح إيران في مركز استراتيجيتها العالمية كما فعلت إدارة جورج دبليو بوش حين وضعت العراق والإرهاب أولويتها الاستراتيجية. مما أفسح المجال لاستعادة روسيا دورها كدولة كبرى وسمح للصين أن تتقدم بخطى واسعة وفي كل الميادين لتصبح الدولة الكبرى الثانية من حيث قوتها الاقتصادية عالمياً.

إن تفسير هذا الخلل الاستراتيجي في المرة الأولى، وفي المرة الحالية يكمن في الانحياز المبالغ فيه للاستراتيجية الصهيونية التي تجعل من إيران وحزب الله (ومحور المقاومة والممانعة كله بما فيه المقاومة في قطاع غزة) أولويتها الاستراتيجية، في هذه المرحلة، كما جعلت أولويتها في المرحلة السابقة الحرب على العراق واحتلاله وتدميره تلبية لحقد صهيوني عميق ضده.

ولهذا كما أدت تلك الأخطاء الاستراتيجية إلى بروز منافسين كبار للإمبريالية الأمريكية وإلى تورط أمريكا في حروب نتيجتها فاشلة، وقد عادت بالخسائر الفادحة عليها، سوف تؤدي، في المرحلة الراهنة، إلى الإخفاق والفشل. الأمر الذي سيزيد من تراجع سيطرتها في المنطقة العربية- الإسلامية (إيران وتركيا) بل وعلى مستوى عالمي. ولكن من المهم أن يصار إلى ملاحظة انتقال الاستراتيجية الأمريكية إلى التركيز على إيران وحزب الله. ولعل القرار السعودي في فتح المواجهة في لبنان (استقالة سعد الحريري) أول ترجمات ذلك التركيز الجديد لإدارة ترامب. ولعل زيارة محمود عباس للسعودية هي الثانية "السريعة".

الصين، روسيا، أوروبا
من يتابع البيان الختامي للمؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في النصف الثاني من تشرين أول/أكتوبر 2017، يتأكد من أن ميزان القوى العالمي يشهد نهوضاً قوياً وسريعاً للصين لتحتل المرتبة الأولى بين الدول الكبرى قبل منتصف القرن الواحد والعشرين. وربما أسرع من ذلك في حالة سرعة تدهور الوضع الأمريكي. وهذه النهضة التي تسعى إليها الصين تتسم بالتطور الشامل عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً، فضلاً عن تعزيز قبضة الحزب، وضمانة وحدة داخلية، لا تسمحان بالاختراق الخارجي كما حدث مع انهيار الاتحاد السوفياتي.

أما النقطة الثانية المعززة للأولى، وذات الأهمية الخاصة بها، وهي الإصرار على بناء نظام اشتراكي بخصائص صينية. مما يعني طريقاً ثالثاً بين الرأسمالية والاشتراكية السوفياتية وحتى الصينية بسماتها الأولى. وذلك مع الحفاظ على المرجعية النظرية للماركسية اللينينية أفكار ماو تسي تونغ ودينغ تشاو بينغ. مضافاً إليها "أفكار شي جين بينغ" (الزعيم الحالي). وقد يلعب هذا البعد دوراً مؤثراً في الفكر اليساري العالمي إذا ما حققت الصين نهضتها المنشودة وتحولت إلى المرتبة الأولى بين الدول الكبرى. وهو يعني واحداً من أسلحة التحوّل إلى رقم 1 بين الدول الكبرى.

إن هذا البعد الصيني في قراءة الوضع العالمي يكمل الصورة، ويجب أن يؤخذ في الاعتبار. ولكنه في المدى الراهن والمنظور لا يريد الدخول في زحمة الصراعات الدولية كما هو الحال بالنسبة إلى الدول الكبرى الأخرى، ولا سيما روسيا التي راحت ترسخ حضوراً استثنائياً في السياسات الدولية بعامة، وخصوصاً في أوروبا وسوريا والمنطقة العربية الإسلامية (تركيا، إيران).

صحيح أن من الممكن للذين يهمهم التقليل من مكانة روسيا بين الدول الكبرى الاستناد إلى ضعف دورها الاقتصادي أو صراعاتها الداخلية. ولكن ما تعكسه سياساتها الواقعية ومواقفها يؤكدان أنها متقدمة على الدول الكبرى في مبادرتها وتماسك استراتيجيتها، وما أحدثته من قفزات في السياسة الدولية خلال الخمس سنوات الماضية.

ولعل الدور الذي لعبته في أوكرانيا وضم القرم إليها من جديد. ثم دورها الاستثنائي في سورية، وما نسجته من تحالفات مع الصين وإيران وتركيا، وما عقدته من علاقات مع السعودية ومصر والعراق والكيان الصهيوني وحتى مع أمريكا (في سورية)، ليؤكد أن روسيا كانت الدولة الكبرى الوحيدة التي التقطت متغيرات موازين القوى العالمية والإقليمية. واستطاعت أن تواجهها باستراتيجية متماسكة تعرف ما تريد وتعرف كيف تصل إلى ما تريد. فروسيا تحتل موقعاً في السياسة الدولية وموازين القوى الجديدة متفوقاً تكتيكياً على أمريكا وأوروبا اللتين وذلك بالرغم مما تمتلكانه من تفوق على روسيا في عدد من المجالات إلاّ أنهما عانتا خلال السبع سنوات الماضية حالة تراجع وارتباك في مواجهة موازين القوى الجديدة وما دار من صراعات. ففيما تراجعت كل من أمريكا وأوروبا من حيث تأثيرهما في السياسات الدولية والإقليمية فإن روسيا تقدمت وتوسع نفوذها الفعلي والمعنوي. وازدادت أهمية سياساتها في الوضع العالمي الراهن.

إن أمريكا وأوروبا إلى جانب تراجع دورهما العالمي تواجه كل منهما معضلة داخلية ليس من السهل تخطيها. فمشكلة أمريكا الداخلية تتمثل في ابتلائها برئيس غريب الأطوار، ومهدداً بالإرباك الدائم بسبب ما يجري من تحقيقات تتعلق بدور روسيا في الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية، والتي قد تصل إلى حد العزل "إمبيتشمنت". وأما معضلة أوروبا الأكثر خطراً على مستقبلها فقد جاءت من انسحاب بريطانيا (البريكزيت) وتداعياته إلى جانب نمو التيارات الشعبوية اليمينية والانفصالية. ثم أضف تناقضها مع أمريكا في الحلف الأطلسي (الناتو). مما راح يضعفه ويشله.


في الوضع العربي- الإيراني- التركي
هذه المعادلة الدولية أدت، عربياً وإسلامياً وفلسطينياً وكياناً صهيونياً، ولا سيما من حيث تراجع الهيمنة الأمريكية- الغربية، إلى ما شهدته السنوات السبع الماضية من انقسامات وصراعات دموية وحروب داخلية وفتن عرقية ودينية ومذهبية وجهوية، كما أدت إلى ما برز من ظواهر شاذة تكفيرية تمثلت في "داعش" وإلى حد أقل نسبياً في "القاعدة"، فضلاً عن عشرات التشظيات، وفقدان سيطرة الدولة القطرية على وحدتها ونظامها في عدد من الأقطار العربية.

لقد نشأ فراغ، أو ما يشبه الفراغ، المغري للتنافس (التقاتل) من أجل ملئه.

كانت هذه المحصلة للسنوات الخمس الأولى 2011-2015 تبدو باعثة على التشاؤم من المستقبل العربي والإسلامي والفلسطيني في ظل حدوث انقلابات غير معهودة وسريعة ومتعددة، في موازين القوى. وقد طغت سمتان إحداهما الفوضى وفقدان السيطرة، والثانية الوقوف على رمال متحركة بالنسبة إلى مختلف الأطراف المتصارعة، ولا سيما بعد أن تحصل إحداها على التمكين النسبي هنا أو هناك.

وهذا يفسر ما حدث من تغيرات وانقلابات في أوضاع عدد من الدول مثلاً مصر وتونس وليبيا واليمن والعراق وسورية، وما حدث من متغيرات في علاقات الدول مثلاً تركيا وإيران، أو روسيا وتركيا، أو السعودية وروسيا وأمريكا، أو في علاقات أمريكا بروسيا لا سيما في سورية.

على أن السنتين الأخيرتين، أو ربما في السنة الأخيرة (أكثر)، أخذت الأوضاع تتجه إلى تطور الصراعات في أكثر من قطر عربي على الصورة التالية (تقريباً ونسبياً):

1- انحسار ظاهرة داعش والقاعدة. بل اقتراب لخط النهاية الحاسمة في كل من العراق وسورية. وهذا تطور بالغ الأهمية، ولا سيما، بسبب ما سببتاه من سلبية (طبعاً بمشاركة عوامل أخرى) على سمعة الإسلام، وما ذُرف من دماء بريئة، وارتكِبَ من جرائم مشينة، وما حدث من فتن وانقسامات طائفية ومذهبية. ومن هنا يجب أن تسجل نهاية داعش (على الخصوص) والقاعدة تطوراً إيجابياً في رسم المستقبل العربي، ولا سيما في سورية والعراق.

2- في الوقت الذي تحققت انتصارات كبيرة في سورية لإخراجها من أزمتها تدخلت أمريكا لتشكل كياناً كردياً في الشمال السوري معززاً بأحدث الأسلحة ومحمياً بالدعم الأمريكي. الأمر الذي راح يعوّق في خروج سورية موحدة منتصرة تلملم جراحها وتعيد بناء ما تهدم من مدن وقرى وما تشرد من ملايين بين السوريين.

هذا الكيان الكردي، وتبنيه أمريكياً، أثار صراعاً تركياً- أمريكياً واستدعى تنسيقاً تركياً- إيرانياً- روسياً لتدخل قوات تركية في شمالي سورية. الأمر الذي راح يعقد الوضع المتجه إلى الانتصار. ولكن إذا اتجهت تركيا إلى إزالة عقبة الصراع الذي تخوضه ضد النظام والرئيس السوري فسيؤدي ذلك إلى حل المشكل الكردي. مما يؤمن وحدة سورية ودولتها المركزية، كما يؤمن جزءاً هاماً من الأمن القومي التركي. ويفتح مجالاً أرحب لتعاون إيراني- سوري- تركي- روسي يمكنه أن يلعب دوراً مؤثراً وإيجابياً على مستوى المنطقة العربية- الإسلامية المضطربة كلها.

3- وفي الوقت الذي تحققت فيه انتصارات كبيرة في العراق ضد داعش وإيصالها إلى نقطة النهاية تحرك البرزاني لإجراء استفتاء لتنفيذ خيار قرار استقلال الإقليم الكردي. مما يُقسم أرض العراق، ويمزق وحدته. ولكن أثبتت الوقائع أن هذه الخطوة كانت مضادة لما حملته من هدف. وذلك بسبب ما ووجهت به من موقف عراقي رسمي مصمم، ومن رفض إيراني حاسم، وتركي قوي. فضلاً عن افتقادها للتأييد العالمي، واقتصار دعمها على حكومة نتنياهو. ولهذا كانت نتيجته فشلاً تاماً أدى إلى استقالة البرزاني وفقدان الإقليم ما اعتبر من مناطق متنازع عليها بينه وبين الحكومة المركزية التي أعادت سيطرتها على تلك المناطق.

إن فشل تجربة انفصال الإقليم الكردي في العراق يعتبر إنجازاً إيجابياً لا يقل أهمية عن إنجاز القضاء على داعش بالنسبة إلى المستقبل العربي- الإسلامي، وهو يجتاز هذه المرحلة الخطيرة من تاريخه. أما من جهة أخرى فقد كشف ضعف الكيان الصهيوني وما يمكن أن يؤثر فيه.

طبعاً ما زال أمام مختلف القيادات العراقية وممثلي مختلف مكوناته، وبعون إيجابي، من إيران وتركيا، أن يصار إلى إعادة توحيد العراق على أسس داخلية تنزع الفتيل مما تفجر من صراعات مذهبية ودينية وعرقية وجهوية.

4- ما زالت الأوضاع المأزومة والدموية في كل من ليبيا واليمن بعيدة من الوصول إلى حوار يُخرج القطرين مما يواجهانه من حرب ظالمة، لا سيما في اليمن، علماً أن ثمة بوادر أخذت تلوح بإمكان البحث عن حلول من خلال الحوار والتفاهم بعيداً من الحسم العسكري والحرب. فالتجربة أثبتت أن الحسم العسكري بعيد المنال، في اليمن، في ظروف داخلية وإقليمية ودولية شديدة التعقيد والتدخل والتداخل، كما أثبتت التجربة خطأ استئثار مكون واحد للسلطة. بل هو أيضاً بعيد المنال.

5- اتجهت التطورات في السنة الأخيرة إلى تعزيز العلاقات الإيرانية-التركية والعلاقات الروسية- الإيرانية، والعلاقات الروسية- التركية. مما يسمح لهذه المعادلة بالتعاون مع النظام في سورية كما مع الحكومة العراقية والقوى الشعبية العراقية إلى الانتقال بالوضع في كل من سورية والعراق إلى مرحلة الحل السياسي وتجاوز ما يمكن أن تحاوله أمريكا لتخريب الحل في البلدين.

فإذا ما أمكن قيام تعاون إيراني- تركي- روسي- عربي، فإن الانتقال إلى مرحلة جديدة ليس على مستوى سورية والعراق فحسب وإنما أيضاً، على مستوى الإقليم كله (العربي- التركي- الإيراني). بما في ذلك إيجاد مصالحة في اليمن، وإنهاء داعش في سيناء، ومن ثم إقامة نظام إقليمي جديد. فمع هذا التعاون الرباعي لن تستطيع أمريكا بسياساتها الصهيونية، وشراكتها مع الكيان الصهيوني أن يمنعا هذا الانتقال كما لن يستطيعا تمرير مؤامرة الصفقة التاريخية التي يسعى دونالد ترامب فرضها، من خلال تشارك عربي- فلسطيني- صهيوني- أمريكي، على القضية الفلسطينية. فموازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية تسمح بتحقيق الإنجاز المنشود والتصدي لما يُعده ترامب ضد القضية الفلسطينية، كما ضد إيران وحزب الله والمقاومة في قطاع غزة.

في الوضع الفلسطيني – الصهيوني بالإضافة لما أشير إليه أعلاه من عودة الملف الفلسطيني إلى مصر وإشرافها على خطوة أولى وهامة باتجاه المصالحة إلاّ أن أبعاداً أخرى شديدة الأهمية يجب أن تلحظ في قراءة وضع الكيان الصهيوني:

1- ثمة قرار في ائتلاف حكومة نتنياهو يقضي بعدم القبول بحل الدولتين (بالرغم من تصفويته) من جهة وبالمضي إلى أوسع مدى في استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس ووضع اليد على المسجد الأقصى.

2- تتبنى حكومة نتنباهو هذا القرار برفض حل الدولتين الذي يحول دون إجراء تسوية حتى مع محمود عباس إلى جانب استراتيجية الاستيطان. وقد اعتمدت على ضعف سلطة رام الله التي حبست نفسها في قفص المفاوضات والتنسيق الأمني متخلية عن كل شكل من أشكال المقاومة للاحتلال ومواجهته، بل راحت تناهض الانتفاضة الشعبية الشاملة. ولكن قيادات الكيان من جهة أخرى تحاول تجاهل ما لحق به من ضعف في ميزان القوى. وهذا التجاهل هو الذي دفعها إلى خوض ثلاث حروب فاشلة مع المقاومة والشعب في قطاع غزة. وقد ساعدها على هذا التجاهل ما راحت تحظى به من تطبيع وهرولة من جانب عدد من الدول العربية، لا سيما من قبل السعودية والإمارات. علماً أنها لم تستطع حتى الآن أن تحوّل هذه الهرولة إلى مشروع يعزز دورها السياسي والعسكري في التأثير في أحداث المنطقة بل لعل كل ما حاولت الإفادة منه هو التباهي بما تطور من علاقات عربية بها تحت عنوان التخلص من العزلة العربية.

3- إن ضعف الكيان الصهيوني في ميزان القوى يرجع أولاً لتراجع الهيمنة الأمريكية- الأوروبية وهي التي شكلت المصدر الأول لقوة الكيان الصهيوني تاريخياً. وثانياً ضعف البنية العسكرية للجيش الصهيوني ولا سيما من ناحية تراجع قوته البرية التي مُنيت بالهزيمة في أربع حروب كانت أولها حرب 2006 في مواجهة مقاومة حزب الله في لبنان ثم في مواجهة مقاومة حماس وحركة الجهاد في قطاع غزة في ثلاث حروب. وهذا الضعف لا يعوضه ازدياد القوة الجوية والصاروخية والتكنولوجية. لأن الحروب لا تُكسَب من الجو وإنما من خلال الاحتلال المباشر على الأرض.

أما ثالثاً فثمة ضعف في البنية السياسية الحاكمة نفسها في حكومة الكيان الصهيوني مما يدفعها إلى المزيد من التطرف الديني وضيق الأفق وارتكاب الأخطاء السياسية وقد انعكس هذا بصورة خاصة على ضعف ديبلوماسي ملحوظ بالرغم من تطور العلاقات الصهيونية الدولية مع الدول الكبرى وبعض الدول العربية والإسلامية، بشكل لم يسبق له مثيل.

ورابعاً ثمة ضعف في البنية الاجتماعية التي أخذت تفقد روحها التقشفية القتالية السابقة وهي تغرق في مجتمع الاستهلاك.

فهذا البعد المتمثل بضعف الكيان الصهيوني يفتح آفاقاً واسعة أمام المقاومة والانتفاضة الفلسطينيتين ليس من أجل الصمود والاستمرار فحسب وإنما أيضاً في خوض مواجهة شعبية شاملة لتحرير القدس والضفة الغربية بلا قيدٍ أو شرط.

إن الانتصار الذي تحقق من خلال الحراك الشعبي ضد الحواجز الإلكترونية وأجهزة التصوير على أبواب المسجد الأقصى في القدس، يعطي مؤشراً لما يمكن أن يحدث إذا ما عممت هذه التجربة، وإذا جعلت هدفها دحر الاحتلال والاستيطان من القدس والخليل والضفة. وذلك عبر انتفاضة شعبية شاملة، تحت وحدة فلسطينية تجمع كل الفصائل الفلسطينية والحراكات الشبابية والشعبية. هذا إلى جانب ألوان المقاومة التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2015 وقدمت أكثر من 340 شهيداً وما زالت مستمرة حتى اليوم. هذا فضلاً عن الدور الهام للمقاومة في قطاع غزة وللدور الفلسطيني العام في كل أماكن تواجده في الداخل وفي الخارج.

 




- انشر الخبر -