أعتذر للألم الخام الذي لم تمسه يد لتهذبه وتطيبه، عن خيبة الأمل والمرارة بل المرارات التي عاشها ويعيشها الأبرياء في أوطانهم المغتصبة.. علّ أحد يأتي ليربت على أكتافهم ويشد من أزرهم ويمد يد العون لهم! عن الدواء الذي ينتظرونه ولم يقدم لهم! أعتذر لأطفال أفريقيا حينما أُرسلوا لهم حقائب دواء وقد كُتب عليها: بعد الأكل! بينما أنا أعطي الدواء لجدتي بعد أن أقوم بإطعامها أعتذر لتلك الصواني البلاستيكية التي جلبها لي أخي –ذات حر- لأختر أفضلها فإذ بي ألقها مُستغنيًا حينما أتت الكهرباء، أعتذر لسكان المعسكرات المحرومين من الهواء الطبيعي حينما أجلس تحت شجرة بيتنا لأرتقب الهواء بينما هم في حيرة وشقاء، أعتذر لتلك القطة التي أصبتها بالخطأ حينما ألقيت بالقمامة في مجمع النفايات، أعتذر لمن ماتوا على بقائي حيًا أرزق، أعتذر لشواهد القبور عن خطواتي بينها، أعتذر لتلك الدموع التي ذرفها صديقي -ذات حزن- دون أن أواسيها بأناملي نازعًا، أعتذر للأسرى المعتقلين كلما انتقلت من غرفة إلى غرفة، أعتذر لصديقي (إياد) حينما أرسلت له إشعارًا مفاده: أخبر أمك قبل أن تنام بأمانيك، فتنام أنت وتبقى هي مُستيقظة تناجي الله من أجلك! عذرًا يا صديقي قد اقتحمت حُرمة مشاعرك، نسيتُ أن أُمك قد استشهدت في العصف المأكول! أعتذر للجوعى والمحاصرين كلما لمست وجه الرغيف، أعتذر لصديقي الشهيد كلما جلست على رصيف الذكريات محملًا بأثقال الشوق بينما هو يزورني في منامي أن اصبر! لتنوء روحي بكهول الصبر: أشتاقك! أعتذر لشيخي (أبو معاذ) الذي فقد زوجه وابنه لأرسل معزيًا دون أن أرفق بحرمة مشاعره وإذ به يرد على الفور: شاكرًا! لأنكسر -حينها- كألف (إِمي) حينما كتبها طفل في أول درس باليتم، أعتذر لكل كفيف كلما لامست يداي لوحة هاتفي بحرية عند كتابة هذه الإعتذارات، أعتذر لظل الشجرة حينما مررت بجواره دون أن أعانقه، لتلك النملة المسكينة التي كانت تحمل فوق كاهلها حبة قمح بينما أنا أمشي بإسترخاء، أعتذر للأحبة عن حزني، ولأعداء الحب والإحسان عن طيبتي، أعتذر لوطني عن منفاي.. ولمنفاي من إغترابي بين ضجيج من حولي! أعتذر للشمس عندما أشعل لمبة في النهار، للباب الذي أطرقه وهو غارقًا في أحلامه، لستائر غرفتنا عندما أغلق النافذة بينما هي تراقص الهواء، لتلك الأم التي فقدت أولادها في مسجد الروضة لأنام مُسترخيًا في فراشي الدافىء ليلتها، بينما هي مٌستيقظة تمد بساط الليل، وتتكىء على أرائك ذكريات أولادِها ثم تطوف عليهم بأكواب من حنين، للشخص الذي جلس بجواري في السيارة عندما أدرت الراديو دون أن أسأله: هل تُعجبك هذه الإذاعة؟ للولي العارف ابن القيم -عليه سحائب الحُب- حينما سألتهُ -في تنور ليلة كان طولها كالدهر- عن مسألة الشوق: هل يزيد أم ينقص عند لقاء المحبوب؟! وقبل أن يُكمل حديثه أغلق الكتاب وأنام! أعتذر لأخي أحمد الشقيري عندما كُنت أقتبس من إنسانيته ولطفه في خواطر بينما كُنت ألهو في قراءة رسائلي، لشروق الشمس والذي لم أصفق له كما فعلت مع الألعاب النارية في طقوس فرح أُخيتي، لبروق الصيف لأنها كاذبة المواعيد، للقمر عندما أغلق النافذة وأتركه يبات ليلته في الخارج، لعامل النظافة الذي قضيت طفولتي وأنا أرمي قمامات بيتنا دونما أن أسأل ولو لمرة لماذا لا أجدها في اليوم التالي على الشارع؟ أعتذر لمعلم الرياضيات (مُصطفى) عندما كنت منشغلًا بكتابة الرسائل مع صديقي بينما هو يحاول أن يجد قيمة الدالة: س.. من سرقها؟! لجدي الذي فقد نصف أسنانه بينما أنا ألقي نكتة وفي يدي مكسرات أقوم بقرشها أمامه، للأبرياء الأطفال في حرب الفرقان لأني لم أغلق كتاب التاريخ قبل اندلاع الحرب، لصديقي الذي بدأ بإلتقاط صور سيلفي معي ونحن واقفان على ضفة البحر؛ بينما كنت مُنشغلًا حينها بظلي الذي كان يغرق أمامي! للمُتنبي.. لا خيل لا ليل لا بيداء تعرفني، لا سيف لا رمح لا قرطاس لا قلم، أعتذر للقمر وجه أمي أجمل، أعتذر لأمي لأنني مشيت فوق رأسها فكنت الأعلى منها حينما كانت منشغلة في المطبخ بينما أمشي فوق سقفه، أعتذر لذاك الظامىء في مكان ما من هذا العالم بينما أقوم بالإسراف في الماء عند الوضوء، أعتذر لتلك الدمعات التي تركتها تسافر دون أن أوقفها؛ دمعات شيخي حينما ذهبنا سويًا لزيارة قبر صديقنا الشهيد (حسن)، كان يدعو ويدعو.. أذكر أني إسمي قد نقشه على شفتاه -غير مرة- حين الدعاء، وأعتذر لتلك الأم الثكلى حينما تقاطعت ملامحي مع ذكرى وجه ابنها الميت.. أعتذر لجوالي القديم الذي تحملني كثيرًا وتحمل أناملي والتي كانت تُزعجه كثيرًا حتى في الليل لأقوم أقيد خاطرة كانت تُشغلني.. فالخاطرة التي تستدعي القلم أفضل من التي يستدعيها القلم، أعتذر للذين أحبهم كثيرًا وأبدو كأني أحبهم قليلًا! أعتذر لجدي عن قوة عيناي في النظر بينما هو يتحسس بعروق يداه باحثًا عن الراديو، أعتذر وأعتذر بخفقات قلبي وبأغوار عزلي لكل روح مرت بجوار قلبي! للأشخاص الذين كان عليّ أن أشكرهُم ولم أفعل، للذين كان يفترض أن أُحبهم فحال بيننا الموت ولم أستطيع! أعتذر لأولئك الذين علموني كيف أن أكتب اسمي، ومحاهم الزمان من ذاكرتي! أعتذر للذين كان علي أن أنصحهم بالترهيب ولم أفعل، لمن كُنت أريد مصافحتهم ولم أصل، للذين حفظت وجوههم وضيعت أسماءهم، لتلك الشجرة التي حطبت منها لأمي بفأس يده من خشب؛ ما يؤلمها ليس ذاك الفأس.. إلا أن الفأس من صُلبها، لحجر الرصيف حينما أمر أمامه كي يكون الواجهة لأحذيتنا، لتلك الزهرات في بيتنا القديم التي كنت أستظل تحتها ما إن رحلنا حتى جفت! لكل من هرب إلي وهربت منه دون قصد، للذين انتظروني طويلًا ولم آتي إليهم، للذين وصلتهم قبل أن ينتظروني، لكل من كون ذاكرتي ونسيته، للمجهولين في غرفة الذاكرة ويتلمسهم عماي، لمن رأى فيّ صديقًا ورأيته أبعد، للذين شاركوني الغرق وانفردت بالنجاه! آيا صديقي: لا تعتذر عن الكلمات السيئة التي قلتها فحسب؛ بل إعتذر عن صمتك تجاه الأشياء الجميلة التي شح لسانك عن ذكرها! ودعكَ ممن خذلك، واعتذر لمن خذلته، ولمن خابت توقعاته بك؛ فهو على الأقل ظنّ بك خيرًا، إعتذر لوجهك الجميل الذي اتخذته قناعًا لتُخفي خلفه قتامة قلبك! إعتذر عن قسوتك مع اللطفاء الذين يستميتون لإرضائك، إعتذر بالنيابة عن قلبك الذي ما عاد يُبالي بالطيّبين بعد أن لطّخ السابقون بصماتهم عليه، إعتذر للحظات السعيدة التي تسرّبت من بين يديك وأنت مُنشغل عنها بالعتاب والزعل، إعتذر عن تلك الكلمات التي وددت أن تحادث بها من تُحب؛ لأنك لم تجد مقدمة جيدة تستهل بها كلماتك! وأخيرًا: أعتذر لكل قلب أصابه أسى حينما جعلته يسترجع ذكرياته بسبب حرف من هذا المقال!