بسم الله الرحمن الرحيم
اقـرأ .. فأمة اقرأ لا تقرأ
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فهو الذي منَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلوا عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأصلي وأسلم على معلم البشرية، نبينا المهداة محمد، فاللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى كل مؤمن صلى عليه، وبعد :
فلا يستريب أريبٌ أكرمه الله بقلبٍ حيٍ أن تعظيم قدر العلم سمةٌ على اصطفاء الله للعبد من بين أقرانه، وبهذا صرح ابن القيم قائلاً : السعادةُ الحقيقيةُ الروحيةُ النفسيةُ هي سعادة العلم، فهي الباقية على تقلب الأحوال، في دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وبها يترقى معارج الفضل، ودرجات الكمال، ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة، وعِظَمِ قدرها، لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحِجَابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بأسوار من الجهل، ليختص الله بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم .
ومن المعلوم عند أولي الألباب أن أركان الدين فضلاً عن فروعه، كالدعوة والجهاد والتخطيط وإقامة الدول الفاعلة، وبناء الشخص إيمانياً، وإيجاد سعادته روحياً، فكلها تقوم على بنيان " اقرأ "، ولهذا فاتحةُ ما نزل من القرآن { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } العلق(1)، وقوله { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }فاطر(28)، وقد توصل أبو هريرة بعد هذا لنتيجة بليغة قال فيها : لأن أفقه ساعة أحب إليَّ من أن أحيي ليلة أصليها حتى أصبح، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، وليس من العجب أن يكون العلم أفضل من الجهاد، فإن الله سمى العلم جهاداً كبيراً، وسمى الحجة العلمية في القرآن سلطاناً، كما في قوله تعالى { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ }الصافات(156)؛ ذلك أن السيف يأسر الأبدان، لكن العلم يأسر الفكر والقلب، والأبدان تابعة له، ولهذا قال سفيان ابن عيينة : أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الرسل والعلماء .
وقد فطن ابن مسعود لهذا المعنى قائلاً : عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه هلاك العلماء، فوالذي نفسي بيده لَيَوَدُنَّ رجالٌ قُتِلُوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم علماء، لما يرون من كراماتهم، وإن أحدكم لم يولد عالماً، إنما العلم بالتعلم، ولكن النصيحة التي ندين الله بها للشباب الطيبين المرابطين في البلاد المسلمة، التي منّ الله عليها بميدان الجهاد بالنار والبارود، أن من كان العلم في حقه أقوى عليه أن يتعمق في فروعه، فضلاً عن أصوله؛ ليؤثر في المحبين، موقعاً عن رب العالمين؛ ليكون كالغيث أينما حلَّ نفع، ولا ينسى حظاً من مفاصلة الذين كفروا بالسيف؛ ليصيبَ من كل غنيمةٍ بسهم، أما من كان الجهادُ أفضل في حقه لعجزه الشديد في التعلم، فعليه ألا يتقاعس عن الحد الأدنى من العلم، الذي يصلح به حاله في دينه ودنياه .
وثَمةَ عوائقُ تحول دون الوصول للمبتغى العلمي من أهمها : الإخلاص المنقوص، فمن طلب العلم سعياً لرتبة دنيوية، أو مصلحة ذاتية، سواء كانت مادية أو معنوية، فقد حجب ذاته برؤية ضبابية، تشوش على نقاء الصورة في القلب؛ ذلك أن " مَن تَعَلَّمَ العِلْمَ لِيُبَاهِيْ بِهِ العُلَمَاءَ، أَو يُمَارِي بِهِ السُفَهَاءَ، أَو يَصْرِفَ بِهِ وُجُوه النَّاسِ إِليْهِ أَدْخَلَهُ اللهُ جَهَنَّم " صححه الألباني، فإذا لم تخلص فلا تتعب، ولا يغرنك جميل نظر الناس إليك؛ فإن الله U برحمته يظهر للناس الحسنات القليلة، ويخفي عنهم السيئات الكثيرة، فالفضل لمن أكرمك وسترك، لا لمن مدحك وشكرك، وينبغي عند مدح الناس لك، أن تعود أشد مقتاً على نفسك، فمن الحماقة أن تترك يقين ما نفسك، لظن ما عند الناس { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } النجم(28)، أمَّا ما تسمعه من الناس؛ فهذا تنبيه لك من الله جل جلاله؛ ليفوق عملك صِيتُكَ، فضابط الإخلاص هنا: أن يكون عمل السر في حياتك، أكثر من عمل العلانية، ولك خير أسوة في سلفك، فكن كسفيان الثوري الذي قال : أنا لا أعتد بما ظهر من عملي .
وبعد هذا ننصح أحبابنا التمسك بالأمر الرباني " اقرأ "، ولابد من إمام تقتدي به في مسيرة الطلب، أو صديق تحثه ويحثك، لتجنب الفتور العارض، لنمسح الأمية عن ذواتنا، فلو قرأ الشاب فقه السنة لسيد سابق في الفقه، وشرح لمعة الاعتقاد في العقيدة لابن عثيمين، ورياض الصالحين للنووي - وحبذا شرحه لابن باز وابن عثيمين- ، والموسوعة الميسرة في التاريخ بتقديم راغب السرجاني، وتفسير الصابوني أو الجلالين في تفسير القرآن العظيم، وكتاب مشارع الأشواق في فضائل الجهاد لابن النحاس، وفي الفكر الإسلامي كُتُب الشيخ يوسف القرضاوي وخاصة فقه الأولويات، والسياسة الشرعية، والصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، وكُتُب الشيخ خالد أبو شادي في الرقائق، وكذلك كُتُب الشيخ عائض القرني للمبتدئ، وكتب ابن القيم للمقتصد، وكتب الأصول والمطولات للسابق بالخيرات، والتي تعرف بالرجوع إلى أهل العلم في بلادنا، فلو تم ذلك لكان خيراً عميماً؛ ذلك أن العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك لم يعط شيئاً ..
ولكن يا أحبابنا ما ذكرنا لا يتأتى تحت الألحفة، أو في ثنايا سبات عميق، فلا ينال العلم براحة الجسم، فلقد قال لك إمامك ابن الجوزي : إن قلت لكم قد قرأت عشرين ألف مجلد لكان أكثر، ولهذا لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ..
فإلى كل من أعرض عن القراءة حتى صدأ عقله دون أن يشعر، وربما استحكمت الجاهلية في أطناب قلبه، هذا خطاب الله لك " اقرأ باسم ربك " ..
وإلى كل مثقف، أخذ حظاً من العلم في جانب من جوانب المعرفة، وخفي عليه الكثير، فهذا أيضاً خطاب الله إليك " اقرأ باسم ربك " ..
فإن الذي يقتل نفسه في الملهيات، ويفني زهرة شبابه في المباحات، وتمضي عليه الدقائق والساعات، دون أن يقرأ آية بتفسيرها، أو حديثاً ببيانه، أو يطالع مسألة فقهية يحتاج إليها لتصحيح عبادته؛ ذلك أن الجاهلَ لا يعذر بجهله، أو يقرأ كتاباً نافعاً يزيد في رصيده علماً وفقهاً ووعياً، فهذا نقول له : أدرك نفسك، فمن العيب أن تموت وبينك وبين العلم بعد المشرقين وبعد المغربين، وقد لا يتحصل على الدرجات العلية في الجامعات والدراسات النظامية، فلابد أن تعلم أن العلم هو النور والحياة لقوله تعالى { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }المائدة(15)، أما من سلك درب الجهالة، فأصحابها كالأنعام، بل هم أضل .. نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين .
نسأل الله جل جلاله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزدنا علماً، فإنه على كل شيء قدير .
هَذَا ، وَصَلِّ اللهُم وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين
بقلم : محمد بن محمد الأسطل