أبجديات تغيير الأنظمة المستبدة
التغيير ؛ كلمة تتوق لها جميع الشعوب العربية عطشا ً... حروف هذه الكلمة ؛ كانت حُلما ً بعيد المنال لكل فرد عربي لا يجد له مكاناً في فلك الزمرة الحاكمة ... هذه الشيفرة التي عجزت الشعوب العربية ولعقودٍ طويلة عن فك رموزها ... التغيير ؛ كلمة يُسقِطها كل زعيم ٍ عربيٍّ من قواميس بلاده ، في اليوم الثاني من توليه العرش ، حتى أضحى مفهوم التغيير لدينا نحن العرب ؛ مقترنٌ بثلاثة أشياء ، أما الأول ؛ فهي التغيير في نسبة الفوز لنفس الحاكم ، التي تزداد في كل دورة ٍ انتخابية ٍ جديدة ، والثاني : تغيير القوانين والدساتير التي تضع سقفا ً لحكم هؤلاء الزعامات ، بما يتلائم وديمومتهم ، أما الثالث : فهو أنه وعلى مستوى تغيير الحكام ؛ لا يوجد في القواميس العربية كلمة الرئيس السابق ، بل تم استبدالها بالرئيس الراحل .
لكن الشعب التونسي قد غير قواعد اللعبة من جذورها ، وأوجد للتغيير معان ٍ ومفردات ٍ كثيرة ، بل إنه ترجم هذه المعاني واقعا ً عمليا ً ، وأدخلها عنوة ً في قواميس الشعوب الأخرى ، وأصبحت انتفاضة الشعب التونسي ؛ مرجعية ً في فقه التغيير.
إن أي تغيير من هذا المستوى ، لا يمكن له أن يكون إلا ّ إذا توفرت ثلاثة أدوات ؛ الإرادة والفعل والدماء ، فالإرادة هي التربة الخصبة التي إذا توفرت ؛ كانت بيئة ً ملائمة لبذور الفعل ، التي لا تنبت إلا ّ إذا ارتوت بالدماء ، فكل حريةٍ بُذِلتْ من أجلها الدماء قد نِيلـَتْ ، وكل حريةٍ لم تذق طعم الدماء ؛ بقيت بذورها كامنة ً في صحراء من صادرها ، تنتظر دماءًا تسيل من عروق أولئك الذين امتلاءت قلوبهم بالإرادة .
إن ضرورة وجود الدماء من عوامل التغيير، لا يجب فهمه إلا ّ في إطار أن الحكام العرب لا يمكن أن يتخلوا عن كراسيهم بسهولةٍ ويسر ، بل إنهم يتجرؤون على دماء شعوبهم ، حفاظا ً على مواقعهم ومصالحهم ، لذلك فتغيير هؤلاء لا يتحقق دون دماء ، هكذا يجب أن يكون مفهوما ً عند من يتوقوا إلى التغيير ، تلكم هي سنة التغيير للأنظمة المستبدة .
لقد أحيت دماء بو عزيزي وما تلاه من شهداء ؛ الشعب التونسي من جديد ، أحيته بعد أن مر على موته أكثر من عقدين من الزمن ، ولم تكن دمائهم بدعا ً من الدماء التي سيلت من اجل نيل الحرية ، فكل الثورات التي هبت ضد الظلم ؛ كانت الدماء وقودها وسر نجاحها .
ألم تكن الدماء التي سالت في غزة كفيلة ً بتغيير قواعد الصراع مع المحتل ، حتى أوصلتنا إلى تحريرها ؟؟ ألم تتخلص أوروبا الشرقية من سطوة الحكم الشيوعي ؛ إلا ّ من خلال الدماء التي سالت في ثورة حركة التضامن التي انطلقت من مدينة غدانسك البولندية عام 1989 ، لتطيح بجميع النُّظُم الشيوعية في أوروبا الشرقية؟؟ فهل ستشكل الثورة التونسية ( غدانسك العرب ) لتبشر بسقوط أحجار الدومينو العربية ؟؟
لقد وقف بن علي ( الرئيس المخلوع ) أمام شعبه ثلاث مرات منذ بداية الانتفاضة الشعبية ، ففي المرة الأولى كان يشير بيده عاليا ً مهددا ً المتظاهرين بالوعيد ، وعندما لم تفلح تهديداته ، وقف في المرة الثانية ، يشير بيده للأمام واعدا ً شعبه بالإصلاحات السياسية والاقتصادية ، وعندما لم يصدقه الشعب في دعواه واستمر في انتفاضته ، وقف أمامه للمرة الثالثة مشبكا ً يديه للأسفل قائلا ً : لقد فهمتكم ...وكررها ثلاثا ً ، ومن الواضح أنه لم يكن ليفهم الشعب طيلة سنين حكمه ولا حتى تلك اللحظة ، إذ لو فهمه كما زعم ، لما تفوه بهذه الكلمات ، لكنه عندما فهمه حقا ً، لم يكن لديه الوقت ليعلن ذلك ، بل استغل ما تبقى له من الوقت ، لِلَمْلمةِ أمتعته والرحيل إلى المجهول .
إن ما آل إليه الرئيس التونسي المخلوع ، يجب أن يغرس في أذهان الحكام مفهومين هامين ، أما الأول ؛ أن سياسة القهر والقمع لا تمد في أعمار حكمهم ، والثاني ؛ هو أن مصير كل طاغية باع نفسه وصادر إرادة شعبه لإرضاء أعداء الأمة ، وارتضى لنفسه بأن يكون أداة ً لقمع شعبه ، ولتنفيذ أجندةٍ خارجيةٍ ، لم يهن عند شعبه فقط ؛ بل عند أولئك الذين قدموا له الدعم واستقبلوه على البساط الأحمر، يوم كان منكبا ً على تنفيذ ما رُسِمَ له ، لكن يوم أن ثبت عدم جدواه ؛ ظل يطير لساعاتٍ طويلة ، يصده هذا عن أرضه ، ويغلق ذاك في وجهه مطاره ، كناقةٍ جرباء ، جف لبنها ، حتى أولئك الذين استقبلوه على استحياء ، قد كبلوه بالممنوعات ، ولم يستقبلوه بشكل رسمي .
لقد فاجأت الانتفاضة التونسية المستويات السياسية والأمنية في الشرق والغرب وفي المحيط العربي ، حتى أولئك الذين عُرِفوا ب ( عرّافو ومنجمو ) مراكز الأبحاث الغربية ، قد عجزوا عن التنبوء بهذه الانتفاضة ، أو حتى مجرد التفكير بها .
إن ما هو مطلوب من الشعب التونسي في إكمال خطواته نحو التغيير ؛ هو أن يبقي جذوة انتفاضته مشتعلة ً ؛ حتى يضمن استبعاد بقايا النظام المخلوع ، وعدم مشاركة أي ٍ منهم في الحكومة التونسية المرتقبة ، وأن يقف الشعب التونسي في وجه كل من يتآمر على نتائج الدماء التي سالت ، أو مَن يحاول حَرْف بوصلة التغيير إلى نفس الوجهة السابقة ، لكن بلون جديد ومصطلحات خادعة ، حتى يضمن بأن تـُتوّج انتفاضته بالنجاح ، وان تحقق أهدافها .
لارسال مقالاتكم وكتاباتكم