الرسام و الخارطة / بقلم الأستاذ محمد سليمان الأسطل


تم النشر 05 فبراير 2011


عدد المشاهدات: 1462


  

الرسام و الخارطة 

   

       نسج الرسام في ذهنه تصورا مبتكرا لخارطة جديدة بتضاريس جديدة كي يستطيع أن يحافظ  على مصالحه و يستغل كل شكل  من معالم واقع هذه الخارطة، و لكن تضاريسها الأصيلة كانت شامخة و متجذرة في أرضها , كانت كل جبالها و سهولها و أوديتها تعشق المكان الذي ولدت فيه و تصمم على الهدف الذي وجدت من أجله, تفنن الرسام في زرع البغضاء و الطائفية في تضاريسها فنجح إلى حد ما و لكنه لم يحقق هدفه المنشود و حاول الرسام أن يرسمها باللون الأحمر القاني و لكنه جنا الفشل و الهزيمة, مرة أخرى  حاول الرسام أن يستخدم أدواته من أشجارها الغير أصيلة و أعشابها السامة من خلال المال و السلطة لتخلق له مناخا يستطيع من خلاله أن يسيطر على الخارطة و يستطيع إعادة رسمها و لكن القدر جعل  أوراق هذه الأشجار الخبيثة تبدأ بالتساقط و أصبحت عارية لا يسترها غير خزيها و عارها فاجتثت من فوق الأرض فما لها من قرار . 

           سرعان ما حاولت أشجار خبيثة أخرى تجمل صورتها و تحسن بعض أخلاقها و لكن خروج الشمس من مغربها أثبت أن الوقت قد مضى و أن التوبة لا تقبل , تهتكت أوراق الخارطة المنشودة و تخبطت ألوان الرسام و بدأ يدرك أن الخارطة الأصيلة ليست منقوشة على أوراقها بل محفورة في أذهان ساكنيها و أن الفن ليس من مكونات شخصيته و أنه يملك موهبة يملؤها الزيف و الكذب , فضاعت أحلام الرسام أمام أصالة الخارطة  و أمام ثبات أصلها و عشق فروعها لسمائها. 

 

            الرسام الأمريكي ينظر إلى خارطة الطريق التي وضعها على أنها المخرج الوحيد للصراع العربي الإسرائيلي والتمهيد السياسي لسنوات الهيمنة الأمريكية القادمة في المنطقة و رسم شرقا أوسطا جديدا والذي من خلاله تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد جمعت بين العرش السياسي و العرش الاقتصادي في العالم. أما دول المنطقة فتجد نفسها مضطرة للقبول بهذه الخارطة أملا في انفراج سياسي تخرج به من الحرج أمام الجماهير العربية الغاضبة و الذي تستطيع أن تداري به عجزها التام على أن تكون عنصراً فاعلاً في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي عسكرياً وسياسياً واقتصاديا.  
      إن المتأمل لخارطة الطريق تتكشف له ما تحتويه من الجرعات السامة التي تعمل على تحجيم مفهوم الثقافة العربية وتوريط هذه الأمة في تيه العملية السلمية لتجد نفسها في نهاية المطاف خالية الوفاض عاجزة عن أي استقلال فكري أو سياسي أو اقتصادي لا يدور في فلك الهيمنة الأمريكية أو وكيل أعمالها في الشرق الأوسط .
 

 

             كان لهذه الخارطة أن تتكون من ثلاثة مراحل و لكنني أجد نفسي عاجزا عن وصفها لأنها تمثل في الحقيقة شروطا لاستسلام هذه الأمة لما فيها من مذلة و مهانة و تشريع لسياسات الانبطاح و الاستسلام ما عرفها التاريخ , القضاء على المقاومة بحجة الإرهاب و العنف كان هدفها الأسمى, إيجاد أنظمة بديلة تستطيع أن تبرر تعاملها مع اليهود كان هدفا لا يقل في الأهمية عن سابقه , أما الهدف الثالث فهو الأخطر على الإطلاق لأنه يشكل مرحلة إذعان و انقياد هستيري للرؤية الإسرائيلية و الأمريكية في المنطقة حيث يشكل هذا الإذعان تصفية للقضية الفلسطينية التي من شأنها أن تقضي على تاريخ الأمة و على أمال و طموحات جيل الحاضر و أجيال المستقبل. 

           إنها لست خارطة طريق بقدر ما هي إعلان لوفاة العرب و للقضاء النهائي على مقومات البقاء السياسي والثقافي والديني في العالمين العربي والإسلامي وما ذلك إلا تمهيداً عملياً لإقامة إسرائيل الكبرى تحقيقاً لنبوءات التوراة والإنجيل ولظهور دجال اليهود ,و لكن مشيئة الله أفشلت هذه المؤامرات في مواقع عديدة و إن نجحت في بعضها بشكل نسبي .  

            تورط الرسام الأمريكي في أفغانستان و العراق رغم كل محاولاته في إشعال الفتن الطائفية و تجريب كل أنواع الأسلحة المسموحة و المحرمة. و تلقت أمريكا صفعة في وجه ديمقراطيتها بفوز حركة حماس في الانتخابات البرلمانية في الأراضي الفلسطينية أدى إلى فرض حصار ظالم على غزة و معاقبة أهلها لتصويتهم لخيار المقاومة,هزمت إسرائيل في حربها مع المقاومة اللبنانية و جرت أذيال الهزيمة بعد أن كانت لبنان في الماضي تشكل نزهة قصيرة لها . حاولت إسرائيل أن تعوض خسارتها فأعلنت حربها  و صبت رصاصها المصبوب على غزة لتغيير واقعها السياسي و لتحقق نصرا يعيد ثقة لجيشها , فدمرت بيوتا على رؤوس ساكنيها وقتلت أطفالا و نساء و شيوخا و استخدمت أنواعا متطورة من الأسلحة و لكنها هزمت بصمود أهل غزة و ثبات مقاومتها فكان نصرا لغزة إذا قيست أهداف الحرب  بنتائجها,  كل ذلك حدث و الأنظمة العربية تقف متفرجة على الشعوب العربية المظلومة بل و تساعد في هذه المؤامرات و تقمع و تعاقب  شعوبها  إذا حاولت التعاطف مع إخوانهم من الشعوب الأخرى من أبناء أفغانستان و العراق و الصومال و السودان و لبنان و فلسطين.

 

           و لكن التاريخ علمنا أن للظلم نهاية و أن القوة مهما بلغت فإلى زوال و إن إرادة الشعوب لا تقهر , فلعل ضارة نافعة , إحساس الشعوب بالظلم جعلها تزيد وعيا و فهما لما يحدث و لما يحاك ضدهم.  ضاقت أحلام الرجال و تحطمت آمالهم  وتشكلت لديهم قناعات راسخة بأن الأنظمة الخائنة لا بد أن تسقط و أن لكل شيء نهاية وأن ليل الظلم بدا بالانجلاء و شمس الحرية قادمة   و أن قدرتهم على الصبر و الاحتمال قد نفدت و أن إرهاصات التغيير قد بدأت و لكن من أين البداية و كيف ؟  جاءت البداية من موقع مستبعد و غير متوقع , جاءت هذه البداية من الشعب التونسي العريق الذي انتفض و ثار على نظامه و استأصل شأفته فهرب رأس النظام إلى جدة لعلها تكون ملجأ آمنا للظالمين في ظل تخلي إبليس عنهم.

 

           أضحت الشعوب أكثر جرأة ليصل الأمر إلى ثورة في قلب الأمة العربية و الإسلامية  , الملايين تطالب برحيل النظام  بل و تطالب بمحاكمة رموزه فجعلت النظام يترنح و هو الآن يلعب في الربع الساعة الأخير إن لم تكن الدقيقة الأخيرة .

 

            المنطقة كلها تتغير و المستقبل سيكون أكثر إشراقا و القلق الغربي في تزايد و الساسة الأمريكيون و الإسرائيليون في تخبط , كل شيء كان بعكس ما دار في ذهن الرسام  و عكس ما توقع معاونيه. الظالمون كانوا يدبرون و يتآمرون و نسوا أن أمور الأرض تذهب في اتجاه ما  قدره و دبره الله سبحانه و تعالى و أن تخطيط الظالمين يختلف كثيرا عن سيناريو القدر.

 

 

أ. محمد سليمان الأسطل "أبو سليمان"     




- انشر الخبر -