سؤال عن أولئك الناس الذين يُسرفون في الإنفاق على ألوان الأطعمة والأشربة، ثم يَنْشُرُون بعض أخبارِها وصُوَرِها على مواقع التواصل الاجتماعي
وردنا سؤال عن أولئك الناس الذين يُسرفون في الإنفاق على ألوان الأطعمة والأشربة، ثم يَنْشُرُون بعض أخبارِها وصُوَرِها على مواقع التواصل الاجتماعي، فماذا نقول لهم؟، وبِمَ ننصحهم للتوقف عن التبذير، خاصة وأنهم بذلك يكسرون قلوب المحتاجين من الفقراء والمساكين..؟!
الجواب
إن الطعام والشراب ليس هدفاً في الحياة؛ إنما هو وسيلة للبقاء عليها، والتزود بالطاقة التي يحتاجها الجسم؛ للقيام بوظيفته الأساسية، وما يتبعها من أنشطة، فقد قال سبحانه: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" الذاريات (56-58)
ولا تنحصر العبادات في الشعائر، أو ما يسمى في الفقه بباب العبادات، بل تشمل أنشطة الحياة المشروعة حين يُقصد بها وجه الله والدار الآخرة، فقد أنشأكم ربكم من الأرض، وَاسْتَعْمَرَكُم فيها، أيْ كلَّفكم أن تعمروها بما يسعد البشرية في الدنيا والآخرة؛ لتكون الحياة طيبةً وذاتَ بهجة.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن آدم تكفيه –لتحقيق هذا المقصد- لُقيماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، وإذا كان لابُدَّ من الزيادة، فليكنْ ثُلُثُ المعدة لطعامه، وثُلُثٌ لشرابه، وثُلُثٌ لِنَفَسِه، وأضعف الإيمان أن يقوم عن الطعام ولا زالت نَفْسُه تتطلع إلى المزيد؛ فإنه ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شراً من بطنه، وقد قال طبيبٌ نصرانيٌّ للحارث بن كلدة: إن العلم عِلْمان؛ علم الأديان وعلم الأبدان، وقد خَلا كتابكم من الطِّبّ!!، فأجابه:
إن القرآن قد جمع الطبَّ كله في شطر آية، فهو يقول: "..وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " الأعراف (31)
وقد عَدَّ القرآن المسرفين والمبذرين إخواناً للشياطين، وأَمَرَ ألا تجعلَ يدك مغلولةً إلى عُنُقِك بُخْلاً، وألَّا تبسطها كلَّ البَسْطِ إسرافاً، وأن تبتغي بين ذلك سبيلاً، فخير الأمور أوسطها، وفي ذلك يقول سبحانه في صفات عباد الرحمن: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا " الفرقان (67)
ولا يفوتني هنا أن أذكر أن الإسلام قد رغَّب في الزهد في الدنيا، والاكتفاء منها بما تيسَّر؛ حتى لا نكون ممن عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا؛ فإن من كان يريد الحياة الدنيا وزينتَها يُوَفِّ الله لهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يُبْخَسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحَبِطَ ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون، وسيجدون ما عملوه من الخيرات كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجدْه شيئاً، أو كرمادٍ اشتدتْ به الريح في يوم عاصف، لا يَقْدِرون مما كسبوا على شيءٍ، فقد جعله الله هباءً منثوراً.
كما لا يفوتني أيضاً أن القرآن قد ذكر أن الحيوان هو الذي يعيش ليأكل ويتمتع، وأن أعداء الله وأعداءنا كالأنعام، فقد رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، أيْ نعيم تافه سريع الزوال.
ولذلك هدَّدهم بقوله: "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " الحجر (3)، وقال أيضاً: "كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ " المرسلات (46).
وإنني أَرْبَأُ بكلِّ مسلمٍ على وجه الأرض أن يكون مثله في الطعام والشراب مثل الأنعام، بحيثُ يفاخر بوفرة العلف وجُودته، كما أربأ بهم أن يكونوا ممن يقولون: يا ليتَ لنا مثلَ ما أُوتي قارون، فإن العصاة يحسبون أن ما يُمِدُّهم الله به من مالٍ وبنين يسارع لهم في الخيرات؛ بل لا يشعرون أنه يستدرجهم من حيث لا يعلمون.
إن المطلوب بعد كلِّ ذلك يندرج في طائفةٍ من الوصايا، وهاكُم أهمَّها في سبع نقاط:
- إن الاعتدال في النفقة هو المطلوب، وإذا كان الإسراف مذموماً، فالتقتيرُ أشدُّ ذَمَّاً؛ لأن الله تعالى يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عباده.
- ضرورة الحرص على المال الطيب الحلال، واجتناب المحرمات، والشبهات، وبعض المباحات؛ فلن يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يَدَعَ بعض المباح خشية المكروه.
- إن الطعام كالنوم من العورات التي يستحبُّ السَّتْرُ فيها، ومن هنا فمن الخطأ نشرُ أخبار الطعام بين الناس، فضلاً عن أن يكون على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن ذلك يُزْري بأهله عند العقلاء، وأصحاب المروءة والذوق العام.
- إن المطلوب أن نَدَّخِرَ ما زاد عن حاجاتنا عند ربِّنا؛ فإنه الباقي والرصيد الحقيقي في صحائفنا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لَبِسَ فأبلى، أو تصدق فأبقى، وحتى نكون مِمَّن بنعمة ربِّه يُحَدِّث.
- إن المؤمن الحقيقي هو الذي يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه؛ بل ويُؤْثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فنحن كالجسد الواحد، ولذا فإن الواجب أن نكون ممن آتى المال على حُبِّهِ ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، والمحتاجين، فضلاً عن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، إذا كان ممن يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، ويجعل الوِلْدانَ شِيباً.
- إن الذين ينشرون بذخهم في الطعام، دون أن يُطعموا في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، يكونون ممن لا يطعم المسكين، وهم من صفات أهل سقر، أو ممن يراؤون، ويمنعون الماعون، وهم الغافلون عن الحساب.
- إن إخراج فُضُول الأموال هو مَهْرُ الأمن من الجرائم، لاسيما جرائم الأموال، فما ظنَّ الأغنياء إذا لم يُؤْتُوا أموالهم للمحتاجين؛ أَلَا يخشون من السطو عليهم، وإن الجائع لن يموت وحده إذا لم يشعر به الآخرون، بينما لو حصل على كفالة الأقربين، أو إخوانه المؤمنين، سيكون من الصالحين؟!!
وفي هذا القَدْرِ كفاية، والله يتولى الهداية
من موقع الدكتور http://www.yalastal.com/advisory-detail/114