التحرك الذي تداعت إليه مجموعة من الشخصيات والمؤسسات الفلسطينية في الخارج لعقد ”المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج“ تحركٌ يستحق التقدير والتشجيع.
إن تفعيل العمل الشعبي الفلسطيني بجميع أطره النقابية والمهنية والنسائية والشبابية… أصبح ضرورة ملحة، خصوصاً في الخارج، في ضوء حالة التدهور المريع في عمل هذه المؤسسات -الذي ترعاه منظمة التحرير الفلسطينية- من ناحية؛ ولأنه من ناحية ثانية أمرٌ لم يعد يحتمل انتظار المصالحات والترتيبات الفصائلية التي طال عليها الأمد.
ولأن العمل الشعبي لا ينبغي أن يربط نفسه ويُعطِّل طاقات الشعب الفلسطيني، بانتظار التسويات السياسية بين القيادات الفلسطينية، بل يجب أن يزداد نشاطه للضغط عليها من أجل المسارعة في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
أوسلو وتهميش فلسطينيي الخارج
منذ أن وقّعت قيادة المنظمة -التي هي قيادة حركة فتح- اتفاقيات أوسلو عام 1993، انتقل مركز العمل السياسي الفلسطيني من الخارج إلى الداخل…، وأخذت تظهر مجموعة من التداعيات دفع الشعب الفلسطيني أثمانا كبيرة لها طوال الـ24 سنة الماضية، من أبرزها:
1- تراجع اهتمام القيادة الفلسطينية بفلسطينيي الخارج وقضاياهم، وتكثيف همومها بالضفة الغربية وقطاع غزة والسعي لتحويل الحكم الذاتي والسلطة الفلسطينية هناك إلى دولة فلسطينية.
2- تضخُّم السلطة الفلسطينية وأجهزتها ومؤسساتها على حساب منظمة التحرير الفلسطينية؛ مع ضمور وتراجع خطير في بُنى ومؤسسات المنظمة التي أمست عملياً أقرب إلى دائرة من دوائر السلطة…، مما أفقد فلسطينيي الخارج إلى حدٍّ كبير الحاضنة السياسية والمؤسسية التي تحتضن همومهم وترعى قضاياهم.
3- تمّ إبقاء الكثير من الهياكل المؤسسية والشعبية والنقابية التابعة للمنظمة، مع إفراغها من محتواها وحيويتها وقدرتها على العمل، والتفاعل مع قضايا وهموم أعضائها. وفي الوقت نفسه، كانت تتم محاربة أي نشاط نقابي أو مبادرات شعبية لتفعيل هذه المؤسسات -من داخلها أو من خارجها- باسم ”الشرعية الفلسطينية“..؛ وهو ما أدى لإضعاف وتعطيل هذه المؤسسات، وضرب العمل الشعبي الفلسطيني في الخارج.
4- انعكس هذا الواقع بشكل سلبي كبير على فلسطينيي الخارج الذين تراجع دورهم وضَمُر نتيجة الغياب الرسمي الفلسطيني وتعطيل العمل الشعبي ومؤسساته.
وهذا أَضرَّ بشكل كبير بالتجمعات الفلسطينية في الخارج؛ فيما يتعلق بحمايتها والدفاع عن حقوقها المدنية وتوفير حياة كريمة لها من ناحية أولى؛ كما أضر وأضعف دور فلسطينيي الخارج في الشراكة السياسية في القرار الوطني الفلسطيني من ناحية ثانية. ومن ناحية ثالثة، انعكس سلباً على ما يتعلق بحق العودة وحقوق اللاجئين الفلسطينيين ومخاطر التسويات السياسية التي تستهدف إلغاء هذه الحقوق، وتنفيذ برامج التوطين وغيرها.
وفوق ذلك، فإن تعطُّل العمل الشعبي والنقابي -من ناحية رابعة- أضعف القدرة على إبراز كفاءات فلسطينية وأجيال قيادية شابة، تتابع مسيرة العمل الوطني الفلسطيني.
وهكذا، أصبحنا نجد أنفسنا أمام مشهد ”سريالي“ فلسطيني؛ فممثلو الطلاب والشباب في المجلس الوطني الفلسطيني تزيد أعمارهم على ستين عاماً؛ ومعدل أعمار أعضاء المجلس الوطني -الذي لم ينعقد منذ أكثر من عشرين عاماً- يزيد على السبعين عاماً.
مؤشرات إحصائية
بناء على تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (في رام الله)، فقد بلغ مجموع الشعب الفلسطيني في العالم (في الداخل والخارج) نحو 12 مليوناً و700 ألف فلسطيني، وذلك في نهاية سنة 2016 (مطلع سنة 2017)؛ يعيش نحو ستة ملايين و290 ألفاً منهم خارج فلسطين، أي نحو نصف الشعب الفلسطيني (49.5% تحديداً).
ويعيش نحو خمسة ملايين و590 ألفاً منهم في البلاد العربية (نحو 89%). ومعظم هؤلاء يعيشون في ”دول الطوق“ المحيطة بفلسطين، وخصوصاً في الأردن (نحو أربعة ملايين يحمل معظمهم الجنسية الأردنية)، بينما يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا في سوريا أكثر من 600 ألف وفي لبنان أكثر من 500 ألف.
غير أن المعاناة الهائلة التي تعرض لها الفلسطينيون بسوريا في السنوات القليلة الماضية أجبرت أكثر من 120 ألفاً على الخروج من سوريا، بينما اضطر نحو 280 ألفاً للنزوح داخلها. أما في لبنان فإن العدد الحقيقي للفلسطينيين المقيمين لا يتجاوز 300 ألف، حيث اضطر الكثيرون للهجرة مع احتفاظهم بهوياتهم وسجلاتهم لدى الأونروا.
وعلى أي حال، فبعد نحو سبعين عاماً من كارثة 1948، لا يزال أكثر من ثلاثة أرباع فلسطينيي الخارج يعيشون في دول الطوق، قريباً من الحدود مع فلسطين.
وبغض النظر عن التقديرات لأعداد الفلسطينيين في الخارج، فإنهم -في كل مكان- مرتبطون بأرضهم، ويتطلعون للعودة إليها ويرفضون التنازل عن حقوقهم فيها. ويملكون إمكانات هائلة وخبرات رائعة لا تجد للأسف في كثير من الأحيان من ينظمها ويستثمرها، ويطلقها بالشكل الأفضل في مجالات العمل الوطني المختلفة.
وهذا الأمر كما ينطبق على فلسطينيي بلدان الطوق، فإنه ينطبق على فلسطينيي الخليج وأوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا… وغيرها.
وفي السنوات العشرين الماضية، ومع تصاعد مخاطر تضييع حقوق اللاجئين الفلسطينيين إثر عقد اتفاق أوسلو؛ أخذت تتشكل وتنشط في الخارج جمعيات ومؤسسات وهيئات شعبية للدفاع عن حق العودة، وتنشر الوعي والثقافة حول هذا الحق، وسط غياب لافتٍ من منظمة التحرير ومؤسساتها.
وقد مثّل مؤتمرُ فلسطينيي أوروبا (الذي سيعقد دورته السنوية السادسة عشرة هذا العام) أحدَ مظاهر النجاح في حركة العودة، حيث يجتمع في هذا المؤتمر نحو 15 ألف فلسطيني؛ مما يجعله أحد أكبر التجمعات الشعبية الفلسطينية في العالم.
وإلى جانب هذا المؤتمر، هناك مؤسسات عديدة ناشطة مثل مركز العودة الفلسطيني، والائتلاف الفلسطيني العالمي لحق العودة، ومجموعة ”عائدون“، وتجمع الشتات الفلسطيني في أوروبا وغيرها.
وفي مجال الحراك لتفعيل دور فلسطينيي الخارج، عُقد خلال السنوات الماضية عدد من الفعاليات نجحت في جذب اهتمام الكثير من الرموز والقوى الوطنية؛ مثل ”اللقاء التشاوري الفلسطيني من أجل حق العودة وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية“، الذي عُقد ببيروت في 12-13 مايو/أيار 2007؛ و”الملتقى العربي الدولي لحق العودة“ بدمشق في 23-24 نوفمبر/تشرين الثاني 2008 بمشاركة نحو خمسة آلاف شخصية من 54 بلداً.
غير أن هذه المؤتمرات مثَّلت حشداً آنياً مؤقتاً لم يتحول إلى برنامج عمل مستمر، ولا تمكَّن من إطلاق ممنهج لطاقات وإمكانات فلسطينيي الخارج.
المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج
ينعقد المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج في 25-26 فبراير/شباط 2017 تحت شعار ”المشروع الوطني… طريق عودتنا“ في مدينة إسطنبول بتركيا؛ حيث يبدو أن الظروف والتعقيدات التي تعاني منها منطقتنا لا تتيح له أسس انعقاد ناجح ومشاركة واسعة في أي بلد عربي. ويتوقع منظمو المؤتمر مشاركة فلسطينية واسعة من معظم بلدان العالم.
وبحسب منظمي المؤتمر، فإنه يهدف إلى تأكيد حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وعودته إليها وفي تقرير مصيره، كما يهدف إلى تأكيد دور فلسطينيي الشتات في العمل الوطني والمشاركة السياسية وصناعة القرار الفلسطيني.
ويسعى المؤتمر كذلك إلى تطوير قدرات الشعب الفلسطيني في الخارج وآليات عمله بما يعزز وعيه وصموده وفاعليته، وتحصيل حقوقه كافة في أماكن وجوده، وعلاج مشاكله وهمومه وقضاياه. كما أنه يهتم بتفعيل أدوار الشباب والمرأة والطفل، وكافة مؤسسات العمل النقابي.
ثمة تحدياتٌ خمسة يواجهها المؤتمر الشعبي للحكم على نجاحه لاحقاً:
1- تحدي الاستمرار: إذ ينبغي لهذا المؤتمر أن يكون نقطة بداية ومنصة إطلاق للفعاليات والطاقات؛ لتتصاعد وتكبر مع مرور الزمن، لا أن يكون مجرد احتفالية تنطفئ بعودة المشاركين إلى منازلهم.
2- تحدي الاستيعاب: يجب أن يكون هذا المؤتمر تعبيراً حقيقياً عن الشعب الفلسطيني ومختلف شرائحه ومكوناته. ومع إدراكنا أن شعبنا الفلسطيني شعب مُسيَّس ولكلٍّ آراؤه وتوجهاته السياسية؛ فإن هذا المؤتمر يجب أن يتجاوز الاستقطاب والمحاصّات الفصائلية؛ وأن يتعامل مع حالات الاختلاف كحالات تنوع وتكامل وإبداع، يجمعها الهمُّ الوطني وتسمو عن المكايدات الحزبية والفصائلية.
3- تحدي الإبداع والتكيُّف: إذ إن الشعب الفلسطيني في الخارج يعيش في بيئات مختلفة، وأنظمة سياسية متنوعة، وأسقف حريات متفاوتة، وبإمكانات مادية واقتصادية متباينة… كلُّ هذا يحتاج حالة إبداعٍ مرنة تمكِّن الفلسطينيين من العمل بأنسب الوسائل والطرق في هذه البيئات، دون أن تضعف هِمَمُهم، ودون أن تضيع بوصلتهم عن جهة فلسطين.
4- تحدي التعامل مع ”سدنة أوسلو“: ستقوم جهات بالتشويش على المؤتمر وستسعى لتشويهه، لأنه لم يُنفّذ بإشرافها وتحت وصايتها؛ وسترفع عقيرتها بأن المؤتمر خارج عن الأطر ”الشرعية“ و”الرسمية“ لمنظمة التحرير… وأنه ”خرق“ للوحدة الوطنية… وستتهمه بكل نقيصة.
وباختصار فإن ”سدنة أوسلو“ الذين ”قتلوا“ العمل الشعبي الفلسطيني في الخارج وأضعفوا مؤسساته، ورفعوا أيديهم عن حماية الشعب ورعايته وتفعيل دوره… لا يريدون أن يعملوا ولا يريدون لغيرهم أن يعمل!!
وهم يريدون تسديد التزاماتهم تجاه أوسلو التي كان أبرز معالمها إضعاف وتهميش دور فلسطينيي الخارج، ولكن مع الإبقاء على حقهم ”الرسمي والحصري“ في التحدث ”باسمهم وغصباً عنهم“!! وسيستخدمون الإرهاب الفكري ووسائل الدعاية الواسعة التي لديهم.
وفي مقابل ذلك، على أعضاء المؤتمر أن يتميزوا بالحلم والصبر والإصرار… وأن يؤكدوا أن العمل وخدمة الشعب هو المعيار الذي توزن به الأمور.
5- تحدي التعامل مع ”جمعيات دفن الموتى“: هناك مؤسسات وجمعيات شعبية فلسطينية كثيرة كانت ناشطة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ثم ما لبثت أن ضعفت وماتت أو وُضعت في غرف الإنعاش، وسيطر عليها غالباً اتجاه فلسطيني واحد سعى لاحتكارها، وأغلق الباب في وجه المشاركة الحقيقية الفاعلة والواسعة ”للكل الفلسطيني“.
هؤلاء الذين حوَّلوا العمل الشعبي إلى ”دكاكين“ خاصة بهم أو ”جمعيات دفن موتى“ لأنها أصبحت سبباً في قتل العمل النقابي وتعطيل العمل والإبداع الفلسطيني… هؤلاء سيصحون فجأة من سباتهم، وسيدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور على أولئك الذين تجرؤوا على أن ”يصحوا“ ويبادروا للعمل… فإذا ما أفشل هؤلاء أي العمل صاعد… عادوا إلى سباتهم وغيبوبتهم من جديد!!
ومرة أخرى؛ فإن على القائمين على المؤتمر التأكيد أنهم لم يأتوا لينافسوا هؤلاء على مواقعهم، ولا على ”نومهم“، وإنما جاؤوا ليبذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم خدمة لقضيتهم وشعبهم.
***
الشعب الفلسطيني في الخارج هو جناح الطائر الفلسطيني الثاني إلى جانب جناح الداخل، ولا يمكن لهذا الطائر أن يحلِّق إلا بهما؛ ولا يمكن لعمل وطني فلسطيني أن يكون متكاملاً وناجحاً من دون أي منهما.
وأخيراً، فإن الرسالة التي يجب أن يؤكدها المؤتمر هي أنه لم يأت بديلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية ولا لمؤسساتها، وأنه لا يحمل أجندة فصائلية ضيقة، وأنه معنيٌّ بشكل إيجابي في البحث عن ”المشترك“ الفلسطيني، وإطلاق طاقات الشعب الفلسطيني في الخارج.
وهو في الوقت نفسه؛ يعبِّر عن إرادة فلسطينية صادقة بأنه لم يعد ثمة مجال للتعطيل، في ظلّ أجواء يتغوَّل فيها الصهاينة وحلفاؤهم على الشعب الفلسطيني، وتُصادَر أرضه ومقدساته، بينما تستمر المحاولات لشطب حقه في الحرية والعودة والاستقلال. وعلى أولئك الذين لا يعملون ولا يرغبون في العمل أن يفسحوا المجال للآخرين.
المصدر: الجزيرة.نت