أشعر ابتداء بالحزن على اختيار هذا العنوان، لكنّ ما يُطرح في الساحة الفلسطينية، وخاصة داخل الأراضي المحتلة، من قبل العديد من الشخصيات السياسية وبعض الأكاديميين، في الإعلام بمختلف وسائله والمؤتمرات، يصيب المراقب بالألم تجاه مستوى التفكير عند من يفترض بهم مناضلون ضد الاحتلال، وهم مقدمة المواجهة معه داخل فلسطين واجبا وواقعا تاريخيا وسياسيا، وعليهم يقع العبء الأكبر في المحافظة على القضية ومشروع التحرير والعودة ورفض الاحتلال بكل صوره.
على العموم، فإن خيار تحرير فلسطين، وهزيمة المشروع الصهيوني، وإنهاء دولة "إسرائيل"، هو الخيار الاستراتيجي للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية من حوله، وهو واجب وطني لا مفر منه لشعبٍ تحت الاحتلال، وهو الذي قدّم التضحيات الكبيرة، وتمكن من فرض ذاته وقضيته على العالم رغم محاولات متعددة -لم تنته بعدُ- لشطبها من قبل أشقاء وأصدقاء وأعداء على حد سواء.
وكم ظن البعض بانتهاء النضال والمقاومة بعد تدمير وكسر وتشريد متلاحق يعرفه كل الشعب ورجالاته، وهي -أي المقاومة- تخرج دوما من بين الرماد ومن تحت الركام، لتفاجئ الاحتلال بأسلوب جديد وديناميكة جديدة، وتعيد القضية إلى الصدارة وتستجلب الدعم العربي والإسلامي الشعبي رغبة وتأييدا وتطلعا، والرسمي إكراها وحرجا وخوفا من الشعوب، وكثير من مثل هؤلاء الخائفين أو المحبطين استعادوا الهمة وشاركوا في النضال من جديد، وإلا لكانت القضية قد انتهت مثل قضايا عالمية أخرى.
ومهما حاول الواقعيون محو جوهر الصراع من أدبياتهم ومن عقول البعض وأدبياته، فالصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعا على مكاسب وحدود ونظام حكم، إنما هو صراع حضاري وجودي، وهاكم تجارب الواقعية في اتفاقات السلام منذ عام 1978 (39 عاما) مرورا بكامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة وغيرها، هل تم استرجاع حرية أرض فلسطين وشعبها تماما على أي جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة؟! وهل تراجع الإسرائيليون عن سياسات التهويد والاستيطان وقضم الأرض وقهر الإنسان وتهويد المقدسات وملاحقة المناضلين؟!
ولئن كان صاحب النظر القصير ومن يتعبه المسير يرى ضبابا وصعوبات واستفرادا بالشعب الفلسطيني من قبل العدو في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها الأمة العربية، وخاصة في دول المواجهة، فقد مرت القضية بمثل ذلك مرات سابقة، وكنا في كل مرحلة نسمع هذه الأصوات المهزومة أو الضعيفة أو المشفقة على آلام الشعب، ثم تنقلب المسيرة ويعود الشعب وقواه الحية إلى المقاومة والمواجهة من جديد وبقوة أكبر، حيث إن شرط الانتصار المعروف لدى الشعوب أنه صبر ساعة، لكنها في حالتنا ساعة طويلة اقتربت دقاتها من أسماع العالم.
القراءة السياسية عند هؤلاء النخب العلمية والسياسية فكريا ونضاليا هي قراءة مجتزأة وقصيرة النظر، وتعيش الأحداث بيوميات ولا تبحث عن معادلات التغيير الجارية والممكنة والمتوقعة لما وراء هذه الفوضى والدماء والتدخل الدولي والإقليمي الفاضح في شئون العرب، ناهيك عن تنامي العنف والإرهاب وتوظيفه بين أبناء الأمة، وتحول الصراع الداخلي فيها إلى أبعاد إثنية وجهوية وطائفية بين دول وقوى سياسية بطريقة فجة غير قابلة للحياة طويلا.
ولذلك فإن البيئة السياسية المربكة والمرتبكة لا تصلح للبناء عليها اليوم في تغيير فكرنا وثقافتنا وأساس مشروعنا بالتحرير، وهي مرحلة -بالتأكيد وبالتحليل الاستراتيجي المنهجي- عابرة، ولكنها عسيرة وصعبة من تاريخ الأمة، سرعان ما تتجاوزها القوى الحية الحاملة للأفكار الوطنية والحضارية لتستعيد مكانتها ودورها ومنها إرادة ومشروع تحرير فلسطين، وسيعود بعض هؤلاء إلى مسار المشروع بقوة وعطاء.
إن ما هو قائم اليوم من اقتتال الأمة العربية، وتمزيق نسيجها الاجتماعي وفكرها، والفوضى تضرب أطنابها، جعل قضية فلسطين خارج جدول الأعمال أو في أفضل الأحوال من أواخر الاهتمامات، لكن هذا غير قابل للاستمرار بحكم ديناميكيته الساخنة والعنيفة والمتحركة، كما أن الحق الفلسطيني قائم والاعتراف به عالميا يتسع، لكن النصر صبر ساعة كما أسلفنا، وهو ما قاله تشرشل ولندن تدمّر على أهلها، وهو ما أوصانا به ديننا "إن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا".
فمن أين لهذه النخب من الأكاديميين والسياسيين والإعلاميين هذه الثقافة الغريبة على مسيرة النضال، فأصحاب الرسالة والقضية العادلة لا يعرفون الكلل ولا الملل مهما طال الطريق... وإن على الذين تعبوا من النضال وشاخوا أن يفسحوا الطريق لمن هو على استعداد لاستكمال المشوار من القيادات الشبابية الوطنية الفلسطينية في كل العالم ومعهم إخوانهم وأصدقاؤهم من العرب وغير العرب، لا أن يعملوا على إحباط الجميع ليكونوا سواء، ثم لا يكون للقضية مدافع ولا مقاوم.
وأخيرا، إن على الشعب الفلسطيني وأنصاره من شرفاء العرب أن يعرفوا أن عظم إنجازاتهم الكفاحية لم تتمكن أن تخفيها أو تطمسها بعض الرؤى العاجزة ولا الأيدي المرتجفة، ولا الهمم الحائرة ولا العقول الشائخة عن الإبداع، حتى وهي توقع الاستسلام مع الاحتلال مرات عدة وفي محطات مختلفة... ولذلك فإن على أصحاب الفكر القومي والإسلامي والوطني المنتمين لقضايا الأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وأخص أبناء فلسطين منهم، عليهم العمل على عزل فكر الاستسلام والهزيمة والإحباط بكل قوة وشجاعة وصبر مهما كان مصدره، وبث روح النضال واستعادة الإرادة الحرة القوية الواثقة لإنجاح مشروع تحرير فلسطين وتحقيق العودة الكاملة، "ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا".
رحم الله من استشهد وهو حامل لواء القضية ولم يصبه الإحباط ولا الكلل، ولم يقعده تخلي الأصدقاء والأشقاء وبطش وقوة الاحتلال وحلفائه الدوليين، فقد استنارت الأجيال متعاقبة نحو التحرير بدماء هؤلاء الشهداء وهي ترسم المسار بأحرف وسهام من نور.