إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء1 ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71) }الأحزاب .
أما بعدُ، فإن أصدق الحديث كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمورِ مُحْدَثَاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وبعد :
إخوة الإسلام والإيمان :
{المالُ عصب الحياة ، ووسيلة إلى مرضاة الله !}
إن للمال في الحياة الآثار العظيمة ، كما أن له في نفوس الناس المنزلة العالية ، فالمالُ عَصَبُ الحياة ، ووسيلة إلى مرضاة الله ، ولا تستقيم أمور الأفراد والجماعات والأمم إلا به ، لذلك نجد الأمم تهتم به غاية الاهتمام ، فتضع له التشريعات والقوانين والأحكام ، وتؤسس له الوزارات والمؤسسات والمصارف والبنوك ، وهذه وتلك تُعْنَى بجميع ما يتعلق بالمال من موارد ومصاريف ، وبرامج التنمية والاستثمار، والحفظ والادخار، بل ويستخدم المال في رسم السياسات ، وتحديد الأولويات ، والوصول إلى تحقيق كبير المرادات ، وجليل الغايات ، وقد سُمِّيَ المالُ مالاً لأنه يميل بالناس ، ومع ذلك فالناس إليه تميل ، إلا ذوي النفوس الكبيرة ، والهمم الخطيرة ، فـ ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ، لأن الرجل الصالح - يا عباد الله – يأخذ المال من مصادره المشروعة ، ويضعه في مصارفه ومصاريفه المشروعة ، بعيداً عن الجمع والمنع ، والكنز والحرمان ، والحقيقة المستقرةُ عندنا نحن المسلمين أن المال عندنا عرض زائل ، وهو كذلك عارية مستردة ، لأن المال في الحقيقة إنما هو مالُ الله ، استخلفنا سبحانه فيه وخلقه لنا لنقوم فيه بتحقيق المصالح ودفع المفاسد ، ولذلك أنزل فيه الأحكام الشرعية في كيفية تحصيل وجمع وتملك الأموال ، وكيفية صرفها وتوجيهها في طرقها المباحة ، التي تنميها وتباركها ، ومن أجَلّـها العطيةُ والهبةُ والهديةُ والصدقاتُ والزكواتُ ، لتحفظ فيها حقوق الناس ، من العامة والخاصة ، ومن ذوي القرابة كالآباء والأمهات ، والأبناء والبنات ، ومن ذوي الجيرة ، ومن ذوي الحاجة والمسكنة ، فإذا لم يقم صاحب المال فيه على الوجوه المشروعة زال عنه بسببٍ أو بآخر ، وتحول إلى غيره ، ولذلك قيل : ( المالُ عَرَضٌ زائلٌ ، وعاريةٌ مستردة ) ، وهذه هي الحقيقة الأصيلة للمعاملات المالية والاقتصادية في الإسلام .
عباد الله ، يا إخوة الإسلام :
لقد شرف الله المالَ في صورٍ عديدةٍ منها :
* سماه خيراً ، في عدة مواضع من القرآن الكريم ، ففي سورة البقرة الآية (180) قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }.قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب الماوردي في تفسيره ( النكت والعيون ) : ( ... والخير : المال في قول الجميع ، قال مجاهد : الخير في القرآن كله المال . { إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] أي المال ، { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبَّي } [ ص : 32 ] { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمِْ خَيْراً } [ النور : 33 ] وقال شعيب : { إِنِّي أرَاكُم بِخَيْرٍ } [ هود : 84 ] يعني الغنى والمال . ) اهـ .
* ومن هذه الصور أنه أمر بحفظه عمن لا أهلية له للتصرف فيه ،كالصغير والسفيه والمجنون ..إلخ ، قال الإمام ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): ( أما شرف المال فان الله عز وجل عظم قدره وأمر بحفظه إذ جعله قواما للآدمي الشريف فهو شريف فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} ونهى عز وجل أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن إضاعة المال وقال لسعد :" لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس " .وقال : " ما نفعني مال كمال أبي بكر" . ) اهـ .
* وفرض فيه الشرائعَ التي تُبَيِّنُ كيفيةَ العمل فيه ، حلالَهُ وحرامَهُ ، وآدابَهُ وأحكامَهُ ، ما كان فيه من حقوق مفروضة ؛كالمواريث والهبات ، والعطايا والوصايا ، وما تعلق به من واجبات ومندوبات ؛ كالزكوات والديون ، والصلات والبر للوالدين والأرحام وغيرها .
أيها المسلمون ، يا عباد الله :
إن الله استخلفكم الله في هذه الأموال لينظر كيف تعملون .يقول الله تعالى في سورة الحديد : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) }.
قال الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير في كتابه تفسير القرآن العظيم : (أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار، وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته، فإن يفعلوا وإلا حاسبهم عليه ، وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه.
وقوله: { مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه، فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك، أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت قتادة يحدث، عن مُطَرَّف-يعني بن عبد الله بن الشّخّير-عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } [التكاثر:1]، يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟".
ورواه مسلم من حديث شعبة، به وزاد: "وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" .وقوله: { فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة..) اهـ .
إخوة الإسلام أيها المؤمنون :
وقد أدرك المسلمون الأولون السلف الصالح رضي الله عنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان هذه الحقائق التشريعية الناصعة ، فأرادوا المال لا للتكاثر والمباهاة ، ولا للتفاخر والاستطالة ، وإنما ليقوموا فيه بأمر الله في مرضاة الله على الوجه الأكمل الأتم ، والأشمل الأعم .
* فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خال النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتصدق بثلثي ماله ، ففيما رواه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم وابن ماجة واللفظ للموطأ قال : حَدَّثَنِي مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ :
( جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي . أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا " فَقُلْتُ : فَالشَّطْرُ ؟ . قَالَ : " لَا " . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ " . قَالَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ " أهـ . يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ .
* وهذا أبو الدحداح ، رجل يبتاع نخلةً واحدة - إي والله نخلةً واحدة - ببستانه من النخيل ، حيث يسكن هو وأهله ، ويأمر زوجته أم الدحداح رضي الله عنهما بالخروج هي وأبناءها من البستان ، فتقول له وهي راضية : ربح البيع ، ما أعجب قصتهما ، روى الأمام أحمد في المسند قال:
حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ ( أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً ، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا ، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ " فَأَبَى ، فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ : بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي ، فَفَعَلَ . فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي قَدْ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي- قَالَ - فَاجْعَلْهَا لَهُ ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ " قَالَهَا مِرَارًا . قَالَ : فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ : يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنْ الْحَائِطِ ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَتْ رَبِحَ الْبَيْعُ ، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا ) اهـ .
عباد الله :
فلنقبل على الله مخلصين ، ولنبادر إليه نادمين ، ولنستغفر الله ولنتب إليه ، اللهم غافر الذنب وقابل التوب، اغفر ذنبنا ، واقبل توبنا ، واكشف كربنا يارب العالمين . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على نبيه محمد المبعوث رحمةً للعالمين ، وعلى آله وأصحابه هم أهل الهداية بالسبيل المستبين ، ومن اتبعهم واقتفى أثرهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ،وعنا معهم اللهم آمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله . أما بعد ، عباد الله ، يا أيها المسلمون :
فلنتسابق في ميادين العمل الصالح ، ومنه الإنفاق في مصالح الدولة والأمة ، فقد كانوا يتسابقون على فعل الخيرات ، وعمل الطاعات ، لا على جمع المال ، روى الإمام أحمد في المسند قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ : ( بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ ، ثُمَّ ائْتِنِي " . فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ فَقَالَ : " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ ، وَيُغْنِمَكَ ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً " . قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : " يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ " .
لقد كان سلفنا الصالحون يا عباد الله ينفقون المال - سواءً كانوا مقلين أو مكثرين- رخيصاً في الصدقات والزكوات ، وفي أعمال البر والمعروف والصلة ، وفي الجهاد في سبيل الله ، طاعة لقول الله تعالى في الآية السابعة من سورة الطلاق: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) } فأغناهم الله تعالى ، وفتح عليهم كنوز الأرض مشرقها ومغربها ، والجزاءُ من جنس العمل ، وما أحرانا أن نترسم طريقهم في هذا الوقت الذي تشتد أزمتنا المالية ، ويحاولُ المحاولون أن يضيقوا علينا من خلال المال لثنينا عن وجهتنا لإقامة دولتنا ، ونيل حقوقنا ، فنصبر ونثبت ولا نلين ، وننفق مما آتانا الله ، ومن هنا فإنني أدعو ولي الأمر في بلادنا والقائمين معه أن يؤتوا الموظفين أجورهم ، ولا يمنعوا أحداً حقه بحرمانه وأسرته أسباب الحياة والعيش الكريم ، فقد قال تعالى في سورة النور: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) } قال الإمام السعدي في تفسيره :
( ...{ وَلا يَأْتَلِ } أي: لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال ، فنزلت هذه الآية، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال: { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } إذا عاملتم عبيده، بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح، وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح، ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم.) اهـ .
أيها المسئولون :
هذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول في بيتي هَذَا : (( اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ، فاشْقُقْ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَرَفَقَ بِهِمْ ، فَارفُقْ بِهِ )) رواه مسلم .
اتقوا الله في رعيتكم ، ولتؤدوا إليهم حقوقهم ، فلا تشقوا عليهم بظلمكم لهم ، ولتنفقوا على الوجوه المشروعة ولذوي الحقوق المشروعة القائمين على مصالح الناس الحقيقية ، التي تكفل لهم الحياة الإنسانية الكريمة ، سواء في الخدمات أو الأعمال الأخرى كالتعليم والصحة والأمن ، وسائر الميادين.
عباد الله :
هداني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، والحكمة سنة النبي العربي الكريم ، ألا وصلوا على البشير النذير ، و البدر السراج المنير ، سيد الأولين والآخرين ، وقائد الغر المحجلين ، اللهم صل وسلم ، وبارك وأنعم ،على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك ومنك وكرمك، يا أرحم الراحمين ، اللهم أعز الإسلام و المسلمين ، واحم حوزة الدين ، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوما ، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروما ، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوما ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، اللهم اهد التائهين ، واغفر للمذنبين ، ورد الضالين ، اللهم تب على العصاة من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم الخطائين المخطئين ، وارحم اللهم عبادك أجمعين ، اللهم إنا نستعيذ بك من شرور أهل الشرك والفساد ، والكفر والعناد ، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم أعزنا ولا تذلنا ، اللهم ارفعنا ولا تضعنا ، اللهم أغننا ولا تفقرنا ، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا ، اللهم خذل لنا ولا تخذلنا ، اللهم ربنا يا الله إنا نسألك مما سألك منه نبيك محمدٌ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون ،ونستعيذك مما استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون ، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا ، وأجدادنا وجداتنا ، وأزواجنا وأبنائنا وبناتنا ، وأعمامنا وعماتنا ، وأخوالنا وخالاتنا ، وأقربائنا وقريباتنا ، وجيراننا وجاراتنا، وجميع المسلمين يا -رب العالمين ، اللهم ربنا وفقنا لما تحب وترضى ، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك ، ولا تجعلها فيمن نابذك وعصاك ، اللهم احفظ ولي أمرنا في فلسطين ، ووفقه وإخوانه ولاة أمر المسلمين وخذ بأيديهم لسياسة الدنيا وحراسة الدين ، وارزقهم البطانة الصالحة التي تأمرهم بالخير وتحثهم عليه ، وجنبهم البطانة السيئة التي تأمرهم بالشر وتحثهم عليه ، اللهم يا الله نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل لنا خير الآخرة والأولى ،برحمتك يا أرحم الر احمين ، وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين .