إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء1 ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً{70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً{71}} الأحزاب . أما بعد ، فان أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها،وكل محدثة بدعة،
{ الإنسان بنيان الله ، ملعونٌ من هدمه !}
ما أجمل وأحكم أن تكون خطبتنا في هذه الجمعة الخاتمة لعام شمسي يمضي في نطاق وصية النبي صلى الله عليه وآله وصحبه ومن اتبعه وسلم في خطبته في حجة الوداع ، وهي الوصية الجامعة لسعادة الإنسانية كلها أبناء آدم في الدنيا والآخرة ، التي تعيش اليوم في بؤس وشقاء لانتشار الظلم ، وفقدان الأمن ، وكثرة القتل في أنحاء العالمين ، فإننا يا عباد الله نجد نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة تعلن مصرحةً بإرساء القيمة الإنسانية للإنسان ، فيشتمل خطابها على الألفاظ الدالة على مسمى الإنسان فرداً أو نوعاً ( يا أثنائه ، حسب ما تقتضيه الحاجة ، ووفق مقتضيات البلاغة والحكمة ، حيث إن الناس جميعاً يتساوون في أصل خلقتهم ، وقد خلقهم الله سبحانه أسوياء من أصلٍ واحد ، قال الله تعالى في سورة النساء :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) }.
وفي قوله :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ }تذكير بالعبودية الخالصة لله تعالى ، وفي قوله : { الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } تذكير بالأصل الجامع للناس فكلهم أبناء آدم وحواء فهم إخوة بعضهم لبعض ، وهذا يقتضي الشعور بالمساواة والعدل بينهم ، ثم ختم الله تعالى بقوله :{ وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ليقرر هذا المعنى ولتتأكد هذه الحقيقة في الواقع الاجتماعي ، ولتتحول إلى سلوك وعمل وخلق يومي بين الناس ، يؤدي إلى استقرار المجتمع ورسوخه .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَمَنْ شَهد خُطْبَةَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أوَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ , قال : قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى ألا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ , ثُمَّ قَالَ : أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا : يَوْمٌ حَرَامٌ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : شَهْرٌ حَرَامٌ ، قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ ، قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ : فَلاَ أَدْرِي قَالَ : وَأَعْرَاضَكُمْ ، أَمْ لاَ - كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا , أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " .
أيها المسلمون :
الإنسان بنيان الله ربنا جل وعلا ، وهو أغلى ما في الوجود ، ولا تستقيم الحياة ولا يعمر الكون إلا بالحفاظ عليه ، والارتقاء به ، ويكون ذلك في توفير ضروراته وحاجياته وما إلى ذلك فيما يتعلق بوجوده كإنسان حيٍ مقتدر وفاعلٍ متأثر ومؤثر فيما حوله وفيمن حوله، وهذه الضرورات تعرف في الإسلام بالضرورات الخمس وهي الحفاظ على نفسه ، و الحفاظ على عقله ، و الحفاظ على نسله ، و الحفاظ على ماله ، و الحفاظ على دينه ، وعلى الإنسان وعلى المجتمع كله أن يعنى بتوفير احتياجاته الإنسانية المختلفة من حيث أمنُه وصحتُه وغذاؤه وإيواؤه ، وهذا ما جاءت به الشرائع الإلهية، وأقرته ونادت به قوانين العدالة البشرية ، وكفله الإسلام لكل الرعايا الذين يعيشون في المجتمع من غير المسلمين .
الإسلام يعلي قيمة النفس البشرية ويحافظ عليها، ويتجلى ذلك فيما يتجلى من أمرين اثنين : الأول الحفاظ على الذات الإنسانية ومقوماتها ، وتشريع الأحكام التي تكفل تحقيقها من ناحية ؛ وتحصيل المقومات الضرورية لذلك من ناحية أخرى ، سواءً كانت هذه الأحكام خاصةً بالفرد أم كانت هذه الأحكام عامةً في المجتمع كله ، أم بين المجتمعات المختلفة .
والأمر الثاني : منع الاعتداء على الذات الإنسانية ، مهما كان هذا الاعتداء ، ومن أيٍّ كان ، وتحت أي ظرف كان .
عباد الله ، أيها المسلمون :
* ولما كان الإنسان بهذه المثابة العظيمة ؛ كانت عصمةُ الدم ، وكان تحريم قتل النفس بغير حق أو الإضرار بها ، وقد ورد ذلك في عدة مواضع في القرآن الكريم :
* ففي سورة المائدة قوله تعالى عن بني إسرائيل : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }.
* وعنا نحن المسلمين في الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} .
وفي الفرقان : {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} .
وقد روى الإمام البخاري - واللفظ له- ومسلم ، وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد
قال : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ؟! قَالَ :
" أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } الْآيَةَ " اهـ.
* لذلك لا يجوز لك أيها المسلم أن تقتل نفسك ، ولا ولدك ، ولا غيره ، مهما كان الأمر ، لا لضيق عيش ، ولا لضيق رزق ، ولا لضيق نفس ، ولا لغير ذلك ، ومن فعل فقد ارتكب موبقاً من الموبقات السبع ، لاسيما وقد قال الله في سورة النساء :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }.
و يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم - واللفظ له - والترمذي والدارمي والإمام أحمد في مسنده عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : " مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا "
إخوة الإسلام :
وأما ذلك المعتدي القاتل الظالم فهو على خطرٍ جسيم ، قال الإمام ابن كثير في تفسير القرآن العظيم : (.. ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد، فقال: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول، سبحانه، في سورة الفرقان: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ (6) } الآية [الفرقان: 68] - إلى أن يقول- والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال المؤمن مُعنقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بَلَّح" وفي حديث آخر: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" وفي الحديث الآخر: " لو أجمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم، لأكبهم الله في النار" وفي الحديث الآخر: "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله" .
عباد الله : المؤمن يحرص على رضا الله فيصبر على ما ابتلاه ، ويشكر على ما أولاه ، ودائما دعاؤه ونداؤه اللهم رضينا بك ربا، وبالإسلام دينا ، وبمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً ورسولا ، اللهم فاغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، وفرج كروبنا ، إنك سميع الدعاء يا غفور يا رحيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على محمد النبي المصطفى ، والرسول المرتضى ، وعلى آله الأصفياء ، وأصحابه الأتقياء ، ومن اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم اللهم آمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله .أما بعد ، عباد الله ، أيها المؤمنون:
لا يتصور أن يقتل المؤمن البر أخاه المؤمن ولذلك قال تعالى في سورة النساء : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا .. (92) }، ولكن بعض النفوس الضعيفة الآثمة يا عباد الله ممن يدعي الإيمان لا يبالي بما حرم الله ، فيرتكب جريمتين : يقتل البرئ ولا يبالي ببراءته وهذه الجريمة الأولى، ويكون البرئ مع براءته مؤمناً وهذه الجريمة الثانية ، وقد يضيف إليها جرائم أخرى كالخطف وغيره والعياذ بالله فيقع تحت طائلة المسئولية والعقوبة أمام الله ثم أمام الناس ، قال سبحانه في سورة النساء أيضاً : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } .
وقد كان ابن عباس، رضي الله عنهما، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن ، كما نقل ذلك ابن كثير رحمه الله في التفسير قال : (... عن سالم بن أبي الجَعْد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه، قاتل مؤمن متعمدا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دمًا في قُبُل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى، يقول: سل هذا فيم قتلني" ؟ وأيم الذي نفس عبد الله بيده! لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان ) اهـ.
أما أولياء الدم المعتدى عليهم فقد أعطاهم الله تعالى ما يطمئنهم على حقهم ، ويحذرهم من العدوان على البرءاء ، فقال جل جلاله في سورة الإسراء : {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} .
ومن هنا فإننا نتوجه إلى ولي الأمر في بلادنا وصاحب المسئولية في فلسطين ألا تأخذه في الله لومة لائم ، في إحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، ورد المظالم إلى أصحابها ، ومنع الجرائم ابتداءً بمنع أسبابها ، ولكن على المجتمع أن يقف وقفة رجل واحد ضد المعتدي بغير محاباة لا من فصيل ولا عشيرة ولا طائفة ولا حزب ولا حركة فالحق فوق الجميع ، وعلى المجتمع كله أيضاً أن لا يأخذ البريء من عشيرة المعتدي بجريرة المذنب ، فهناك أخوة الإسلام ، وهناك القرابة والجيرة والصهر والله تعالى يقول في سورة الأنعام :{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) }.
ألا يا عباد الله ، يا أهل فلسطين : على الله وحده فتوكلوا ، وبه سبحانه فثقوا ، وإياه فادعوا ، واعلموا أن النصر مع الصبر ، فاثبتوا على حقكم مستمسكين ، والزموا الجماعة موقنين ، فالجماعة رحمة والفرقة عذاب ، واعملوا في سنة ، وأخلصوا لله أعمالكم ، وأطيعوا من ولاه الله أمركم ، واصبروا على ما تكرهون مادام حقاً ، وإياكم وما تحبون مادام باطلا ، وانصحوا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم ، فالمؤمنون نَصَحَةٌ ، والمنافقون غَشَشَةٌ ، ولا يستخفنكم من لا يرقب فيكم إلَّاً ولا ذمة ، ولتتراحموا والناس أجمعين ، ووأوصي نفسي وأوصيكم بما رواه مسلم عن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِى وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ : " لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ "، وأذكركم ونفسي بحديث أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " .
هداني وإياكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم..ألا وصلوا على البشير النذير والهادي البدر المنير ، سيد الأولين والآخرين ، نبيكم محمدٍ عليه الصلاة والسلام ،.اللهم صل وسلم ، وبارك وأنعم ،على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك ومنك وكرمك، يا أرحم الراحمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واحم حوزة الدين ، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوما ، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروما ، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوما ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم أعزنا ولا تذلنا ، اللهم ارفعنا ولا تضعنا ، اللهم أغننا ولا تفقرنا ، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا ، اللهم خذل لنا ولا تخذلنا ، اللهم ياربنا إنا نستهديك فاهدنا ، وإنا نسترزقك فارزقنا ،وإنا نستطعمك فأطعمنا ، اللهم ربنا يا الله إنا نسألك مما سألك منه نبيك محمدٌ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون ،ونستعيذك مما استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون ، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا ، وأبنائنا وبناتنا ، وزوجاتنا وأزواجنا ،وأقربائنا وقريباتنا ، وأعمامنا وعماتنا ، وأخوالنا وخالاتنا ، وجيراننا وجاراتنا،وجميع المسلمين يارب العالمين اللهم ارحمهم ، اللهم اغفر لهم ، اللهم انصرهم ، اللهم ارزقهم ،اللهم أعزهم برحمتك ، يا أرحم الراحمين ، اللهم ربنا وفقنا لما تحب وترضى ، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك ، ولا تجعلها فيمن نابذك وعصاك ، اللهم احفظ ولي أمرنا بحفظك ، وارعه برعايتك ، واشمله بنصرك وتأييدك ،وانصر به الدين ، وانصره بالدين ، اللهم أعل به كلمة الحق والسنة ، برحمتك يا أرحم الراحمين ،وإخوانه ولاة أمر المسلمين في سائر بلاد المسلمين ،اللهم وفقهم ليتوحدوا بتوحيدك ، وليعملوا على دينك وشرعك ، مستنصرين بك يا الله على من سواك ،يا أرحم الراحمين ، اللهم يا الله نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل لنا خير الآخرة والأولى ،برحمتك يا أرحم الر احمين ، وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين .