في رحاب آية
د. يونس الأسطل
( صانعُ الأبابيل في عِلِّيين وقتلةُ الأنبياء في سِجِّين )
[رمز] مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [رمز]
المائدة (32)
لا زال الصهاينة يُصَدِّقون وصف الملائكة لبني آدم يوم قالوا: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ " البقرة (30)، وكان من آخر جرائمهم المتجددة في الساحة التونسية الإقدام على اغتيال مهندس طائرات الأبابيل، تلك التي كانت إحدى مفاجآت كتائب القسام في معركة العصف المأكول، فإن الشهيد المهندس محمد الزواري كان له الفضل بعد الله في امتلاك القسام لهذا اللون من السلاح الجوي، ويظنُّ الصهاينة أنهم بتلك الاغتيالات يجتنبون كبائر الخطر والأسلحة، ولو كانوا يعقلون لأدركوا أن فشل هذه السياسة فيما مضى لا يمكن تداركه حاضراً أو مستقبلاً، فقد قتلوا المئات من القادة والعلماء، والآلاف من المجاهدين؛ فهل نالوا الأمن، أم كان مثلهم كمن يصبُّ الزيت على النار، أو يَستنفِر الدبابير حين يقتل بعضها، أو يعبث بأوكارها وأعشاشها؟!!.
إن الشهيد الزواري لم يكن معلوماً إلا لعددٍ محدودٍ من التوانسة، فما بَالُكم بغيرهم من الشعوب!!، واليوم صار رمزاً في الأمة كلِّها، ولسوف تَشْرَئِبُّ أعناق عشرات الآلاف من أبناء أمتنا أن يكونوا أمثاله، وهذا من أقوى البراهين على حياة الشهيد، ولولا أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون ما كُتبت الحياة لتلك الألوف بقتله في سبيل الله؛ إذْ فاقدُ الشيء لا يعطيه، أما الشهداء فقد كان لكم فيهم أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله، واليوم الآخر، وقد أَحْسَنَّا صنعاً يوم أقام القسام خيمة استقبال له لتلقي التهاني بشهادته، وأقامت حركة حماس حفل تأبينٍ له، وكان اكتشاف حاله دليلاً على تجنُّدِ أمتنا معنا في معركة التحرير، وما ينتظر بني إسرائيل وعلوَّهم الكبير من التتبير لا يعلمه إلا العليم الخبير.
إن آية المائدة في ناصية المقال تعقِّب على قصة ابني آدم عليه السلام، فقد انتهتْ بقتل قابيل أخاه هابيل، فأصبح من الخاسرين، فإنه قد أقدم على قتله لدافعٍ دنيوي، تقول عنه بعض الروايات: إنه أراد أن يستأثر بمخطوبة أخيه الوضيئة، ولم تَهُزَّه موعظة أخيه؛ أنه إذا فعلها سوف يَبُوءُ بإثمه وإثم أخيه؛ فإن من يَستحلُّ القتل يصبح مرتداً، فيحبط عمله لو مات على ذلك، فلا تكون له حسناتٌ يقضي منها حقَّ أخيه، فلم يَبْقَ إلى أن يحمل آثام القتيل، فَيُلْقَى في جهنمَ ملوماً مدحوراً من بعد أن كان في الدنيا مذموماً مخذولاً.
إن العجب يَتَمَلَّكُنا من تخطي القرآن لعادٍ قوم هود، وهم الذين كانوا إذا بطشوا بطشوا جبارين، ولثمود كذلك الذين كان فيهم تسعة رهطٍ يفسدون في الأرض ولا يُصلحون، ولفرعون الذي علا في الأرض، وكان من المسرفين في القتل، وجميعهم قد طَغَوْا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، ومع ذلك فإن التعقيب على قصة ابني آدم كان بالتشديد في التأثيم على بني إسرائيل؛ فجعل قاتل النفس منهم بغير حقٍّ كمن قتل الناس جميعاً، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والدلائل على شناعة القتل، وأنه من الموبقات، ومع ذلك فإن كثيراً منهم قد اتخذوا ربَّهم وراءهم ظِهْرِيَّاً، وأمعنوا في القتل إلى حدِّ الإسراف في الأرض، فأثبتوا بذلك أنهم من طِينةِ قابيل الذي استسهل القتل لِحَظٍّ دنيويٍّ، وما الدنيا كلُّها إلا متاع الغرور، وثبت أنه صلد القلب، لا يتأثر بالموعظة، ولا يلين من خشية الله.
غير أن العجب يتلاشى حين نعلم أن آباءَهم الأولين هم الذين قالوا: "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ " يوسف (9)
ثم كان من نبأ مجرميهم أنهم يقتلون النبيين بغير حقٍّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس من غير إحساسٍ بالذنب، فكيف إذا كان مرتبطاً بالقسام أو حماس؟!، وقد جاء في قصة البقرة أنهم قتلوا نفساً، فادَّارؤوا فيها، فأحياه الله، وأخبر بقاتله، فإذا هو وليُّه الذي يطالب بدمه، ثم قستْ قلوبهم من بعد ما رَأَوُا الآيات، فهي كالحجارة، أو أشدُّ قسوة، فقد طال عليهم الأمد، فقستْ قلوبهم، وكثيرٌ منهم فاسقون.
من هنا يطرح هذا السؤال: كيف نصنع بهؤلاء اليهود الذين بلغ بهم الإجرام أن يكونوا شَرَّ الدوابِّ عند الله، وأنه لا مطمعَ في إيمانهم، وأن مَثَلَهم كمثل قوم نوحٍ الذين لم يكونوا يَلِدُون إلا فاجراً كفاراً، أو أنهم كالفراعنة الذين قالوا لسيدنا موسى: "مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ " الأعراف (132)
إنه ليس ثَمَّ إلا حلٌّ واحدٌ مع هؤلاء لا ثانيَ له، وهو أن نُعِدَّ لهم، ولآخرين من دونهم، لا تعلمونهم الله يعلمهم، ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، أو آلات الحرب، حتى إذا لقيتموهم ضربتم رقابهم حتى الإثخان؛ لِتُشَرِّدُوا بهم مَنْ خَلْفَهم، لعلهم يَذَّكَّرون، وليكونوا نَكَالاً لما بين أيديهم، وما خلفهم، وموعظةً للمتقين؛ فإن حكم الله فيهم من فوق سبع سموات فريقاً تقتلون، وتأسرون فريقاً، فقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضبٍ من الله، وتَأَذَّنَ ربُّك ليبعثَنَّ عليهم إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومُهم سُوءَ العذاب.
وإن الطريق لذلك في صناعة ثُلَّةٍ من عباد الله أُولي البأس الشديد، الذين يؤمنون أنهم ملاقو الله، ولن تَضُرَّهم قلة، فكم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله، والله مع الصابرين، وأعتقد أن الشهيد الزواري، وقيادة القسام، من هؤلاء الذين هم على الدين ظاهرون، ولعدوهم قاهرون، ولن يَضُرَّهم مَنْ خالفهم، ولا مَنْ خذلهم، إلا ما أصابهم من لَأْوَاء، وهم الطائفة المنصورة ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس.
ولا تحسبن الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون