هذا العام يكمل الشعب الفلسطينى 100 عام من النضال من أجل أن يعيش حراً كريماً فى وطنه، وهذه هى أطول حرب منظمة مستمرة ضد شعب أعزل. كان العدو ولا يزال هو الاستعمار الغربى والصهيونية الاستيطانية الاستعمارية.
وكان قادة الشعب الفلسطينى يحاربون هؤلاء الأعداء حسب قدراتهم، وخلفهم الشعب الفلسطينى يفتدي حقه فى وطنه بأرواح الشهداء وصمود الأحياء. كان الحاج أمين الحسيني يستنهض الهمم ويستنجد بالأمة الإسلامية لإنقاذ الأقصى. وبنى ياسر عرفات على تنظيمات الفدائيين فى غزة التي تطورت إلى الثورة الفلسطينية بعد عام 1968 وبعد إنشاء المنظمة عام 1964، والتى أدت إلى عودة قضية فلسطين إلى صدارة قضايا العالم عندما ألقى ياسر عرفات خطابه فى الأمم المتحدة عام 1974.
لكن الانحدار بدأ بعد ذلك، وتكلل باتفاقية أوسلو التي عادت بالوبال على الشعب الفلسطينى وبالكوارث أكثر مما فعل وعد بلفور.
وإن كان ياسر عرفات قد أخطأ التقدير بظنه أن أوسلو ستكون وسيلة للعودة الجزئية إلى الوطن المحتل عام 1967، فإن محمود عباس مهندس أوسلو وحاميها وراعى كوارثها إلى يومنا هذا لم يكن مخطئاً فى التقدير، بل كانت النتيجة اليوم فى صميم تقديره.
اتفاقية أوسلو لم تذكر ولو مرة ”الحقوق” الفلسطينية ولا القانون الدولى ولا قرارات الأمم المتحدة . لقد خلقت أوسلو حكومة فيشي الجديدة على نسق حكومة فيشي الفرنسية المتعاونة عندما كانت فرنسا تحت الاحتلال النازي الألماني. بل إن بروتوكول باريس الاقتصادي الذى وقعه أحمد قريع وجعل الاقتصاد الفلسطيني رهينة لـ"إسرائيل" (98% من واردات الضفة من "إسرائيل"، و78% من المعونات الدولية تذهب إلى "إسرائيل")، هو صورة طبق الأصل من بروتوكول باريس الاقتصادي الذى وقعته حكومة فيشي مع النازية عام 1941.
لقد تراجع أحمد قريع وأقرّ بأن اتفاق أوسلو كارثة، وتخلى ياسرعبد ربه عن إلغاء حق العودة تحت غطاء ”اتفاقية جنيف”، ونسمع أن صائب عريقات يطلق التصريحات بفساد اتفاقية أوسلو.
إلا محمود عباس؛ فقد تمسك بأوسلو أكثر من تمسك نتنياهو بها، ولم يتعلم من دروس الفشل التى كانت تلقى عليه وتصفعه كل يوم لمدة 23 عاماً.
لكن هذا يهون أمام تدمير المنظمة ومجلسها الوطني، وهو الإنجاز الوحيد الذى بقي لنا، حتى نبقى شعباً واحداً له وطن واحد.
لقد حول دائرة اللاجئين التى تمثل ثلثي الشعب الفلسطيني (أكبر من الأردن أو لبنان) إلى محل تقاعد لبضعة موظفين.
لقد رفض بإصرار الدعوة إلى انتخاب مجلس وطني جديد حتى قبل فوز حماس بالانتخابات. لقد رفض التسجيل فى محكمة الجنايات الدولية وقبول قرار جولدستون إلا بعد لأيٍ. لقد أهمل حقوق ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، وادعى ببقائه فى سلطة تحت الاحتلال يعيش فيها الربع الباقي، أنه يمثل كل الشعب الفلسطيني، ودعمته "إسرائيل" والغرب؛ لأنه الوحيد تحت هذا الادعاء الذى يقبل بالتعاون معهم والتفريط فى حقوق الشعب الفلسطيني.
وقدم محمود عباس لـ"إسرائيل" تنازلاً معلناً مشهوداً عن أربعة اخماس فلسطين بأن طلب من أغلبية أعضاء الأمم المتحدة التصويت على دولة فلسطين فى خُمس أرض فلسطين خلافاً للميثاق الفلسطيني الذى يمنع التفريط فى ذرة من تراب الوطن، ودون موافقة الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني. وهذا يعني أن 20% من فلسطين أصبح وطن 12 مليون فلسطيني، وأن 80% من فلسطين أصبح وطن 5 ملايين يهودي.
وهذه هدية لم تحلم بها "إسرائيل" منذ وعد بلفور وما تلاه من سلسلة اقتراحات مشاريع التقسيم المرفوضة فى أعوام 1937 و1947 والتي ليست لها قيمة قانونية ما لم يوافق عليها الشعب إذا تنازل عن وطنه. وها هو الآن محمود عباس يقدم هذا التنازل عن معظم فلسطين، نيابة عن الشعب الفلسطيني.!
وطاف محمود عباس بالدول العربية والإسلامية يحمل منشوراً بأعلام 56 دولة يبشر فيها باعترافهم بـ"إسرائيل" مقابل اعتراف "إسرائيل" بدويلة فى فلسطين. "إسرائيل" التقطت الفرصة وأقامت علاقات معلنة وغير معلنة مع هذه الدول، ومن بينها بعض الدول العربية، التى جرؤت على ذلك (ولم تكن تجرؤ من قبل، عندما كان للقضية الفلسطينية هيبة)، باعتبار أنها لن تكون أكثر ولاء لفلسطين من ”قادتها”.
اعترفت تلك الدول بـ"إسرائيل" صراحة أو ضمناً، ولم تعترف "إسرائيل" بأي فلسطين على أي بقعة.
لا نريد أن نذكر هنا الفساد المالي والوطني للسلطة وخدمة العدو الإسرائيلي؛ فهذا معروف للجميع.
ولكننى أريد أن أذكر الآتي لأبين جسامة التردي الذي وصلنا إليه. بعد غياب المنظمة وتصدر السلطة، لم يعد فى الساحة الدولية من يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة إلا الأفراد والجمعيات والهيئات الفلسطينية فى الشتات وبعض البلاد العربية، وحتى الأجنبية المتضامنة مع فلسطين. هم الذين ملأوا هذا الفراغ.
ولكنهم عندما عرضوا مطالب الشعب الفلسطيني فى كامل وطنه وحق العودة إليه، وحقه فى مقاومة المحتل أمام الجهات الأوربية الرسمية، فوجئوا بالرد بأن هذا لا يمثل الرأي الرسمي الذى يتلقونه فى المخاطبات والمداولات الرسمية. وأنا شاهد على ذلك فى عشرات الحالات.
يصبح العبء إذن على المدافعين عن الحقوق الفلسطينية أن يبينوا أن هؤلاء ”الرسميين” لا يمثلون الشعب الفلسطيني، وليست لهم شرعية، لا في الشتات حيث لم ينتخبهم أحد، ولا فى الأراضي المحتلة عام 1967 حيث انتهت شرعيتهم من سنوات.
وأصبح لدى الشعب الفلسطيني لأول مرة أعداء لحقوقه من بين أفراده، يضطر إلى مقاومتهم بجانب الأعداء التقليديين، وهذه قمة المأساة.
والحل طبعاً أن يصر الشعب الفلسطيني على انتخاب مجلس وطنى جديد لشعب بلغ تعداده أكثر من 12 مليونًا، غالبيتهم شباب ولدوا بعد أوسلو. ويرفضون أن يقرر مصيرهم من لم ينتخبوه، بل من يعادي حقوقهم ويقزّم وطنهم إلى رقعة منه خادمة للاحتلال.
إذن على الشعب الفلسطيني أن يرفع صوته وينظم نفسه فى مؤتمر شعبي عام، ويطالب بانتخاب مجلس وطني جديد، وينظف البيت الفلسطيني بمكنسة ديموقراطية، ويعيد إلى الصدارة قيادة جديدة شابة كفئة نظيفة، جديرة بهذا الشعب الذى لا يزال يحارب من أجل حريته قرناً من الزمان، وإن كثرت عليه الأعداء.