وفاة الناصر صلاح الدين الأيوبي " محرر القدس " 27 صفر سنة 589 هـ :
هو يوسف بن نجم الدين أيوب بن شادى، مؤسس الدولة الأيوبية. ولد سنة 526هـ ونشأ فى بلاط "نور الدين زنكى" بالموصل وعُرف باسم "صلاح الدين"، وقضى طفولته فى ظل والده "أيوب" ببعلبك، وأخذ عنه براعته فى السياسة، وشجاعته فى الحروب، فشب خبيرًا بالسياسة وفنون الحرب، وتعلم علوم عصره وتثقف بثقافة أهل زمانه ، وحفظ القرآن، ودرس الفقه والحديث.
رحل "صلاح الدين يوسف" مع والده إلى "دمشق" بعد وفاة "عماد الدين زنكى"، ثم دخل فى خدمة "نور الدين بن عماد الدين زنكى" سلطان "حلب"، فاستعان "نور الدين" بشيركوه وابن أخيه "صلاح الدين" فى ضم "مصر" إليه.
وفي فى أواخر العصر الفاطمى قام صراع محموم بين "شاور" و"ضرغام" على منصب الوزارة، فاستنجد "شاور" بنور الدين محمود، فلبى نداءه وأرسل حملة كبيرة تحت قيادة "شيركوه" ومعه ابن أخيه "صلاح الدين"، فكان النصر حليف الحملة على "ضرغام" والصليبيين الذين استنجد بهم، وقُتل "شاور" فى المعركة، فاعتلى "أسد الدين شيركوه" كرسى الوزارة، ولكنه تُوفِّى بعد قليل، فخلفه فى المنصب ابن أخيه "صلاح الدين" سنة (565هـ) وهو فى الثانية والثلاثين من عمره.
عمل "صلاح الدين" على توطيد مركزه فى "مصر"؛ لتأسيس دولة قوية تحل محل الدولة الفاطمية التى ضعفت، وتحقق له ذلك بعد وفاة "العاضد" آخر خلفاء الدولة الفاطمية سنة (567هـ).
لم تكن الأوضاع مهيأة أمام "صلاح الدين" لإقامة دولة إسلامية يكون هو مؤسسها وسلطانها، خاصة أن العالم الإسلامى كان مفككًا وضعيفًا ويحيط به الأعداء من كل جانب، بالإضافة إلى كونه نائبًا عن "نور الدين محمود" فى "مصر" التى يطمع الصليبيون وبقايا الفاطميين فى امتلاكها والسيطرة عليها، فعمل على مواجهة هذه العقبات والقضاء عليها واحدة بعد الأخرى.
ظل "صلاح الدين" يعمل على توحيد العالم الإسلامى مدة عشر سنوات فى الفترة من سنة (572هـ) إلى سنة (582هـ)، حتى تحقق له ما أراد، واستعد لمواجهة الصليبيين المتربصين بالعالم الإسلامى، ثم تصدَّى لهم، فسجل التاريخ أبرز صور البطولة، وأسمى درجات الفداء والجهاد ضد هؤلاء المغتصبين.
وكان من أبرز هذه المعارك واقعة حِطِّين سنة 583هـ التى تعد من أشهر الحروب التى خاضها "صلاح الدين" ضد الصليبيين وانتصر عليهم فيها انتصاراً عظيماً، وكان هذا الانتصار فاتحة خير على المسلمين، وبداية لسلسلة من الانتصارات على الصليبيين، واستسلمت "قلعة طبرية" وسلمت لصلاح الدين عقب هذا الانتصار، واتجه "صلاح الدين" صوب الساحل وحاصر "عكا" حتى استسلمت بعهد وأمان، ثم تتابع - بعد ذلك - استسلام باقى المدن الساحلية التى تقع جنوب "عكا" وهى: "نابلس" و"الرملة" و"قيسارية" و"أرسوف" و"يافا" و"بيروت"، وكذا المدن الواقعة شمال "عكا" مثل: "الإسكندرونة"، وكلها حصلت على العهد بالأمان من "صلاح الدين" الذى لم يبق أمامه سوى أن يمضى فى طريقه إلى "فلسطين"، فاستسلمت "عسقلان" له أثناء مروره بها، وحانت المواجهة الحاسمة لتحرير "بيت المقدس" التى نجح فى فتحها بعد حصار شديد حتى اضطر مَنْ بداخلها إلى الاستسلام وطلب الصلح.
وفاته :
أصيب رحمه الله بالحمى الصفراوية ليلة " 16 " صفر، ومكث أحد عشر يومًا في مرضه، وفي ليلة موته استدعى أحد قراء القرآن الكريم ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة، فلما أذن الصبح كان في آخر رمق في حياته، فلما وصل القارئ إلى قوله عز وجل : ( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) [التوبة 129] تبسم وتهلل وجهه ثم فاضت روحه رحمه الله ، ولم يترك في خزائنه سوى دينار واحد وستة وثلاثين درهمًا، ولم يترك دارًا ولا عقارًا ولا مزرعة ولا شيئًا من الأملاك، بل كان زاهدًا عابدًا مجاهدًا ، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام خيرًا.
مات رحمه الله وله مـن العمر سبعة وخمسون عـامًا، بعد أن أسر النــاس بجــليـل أعمـاله، وقهر الصـليبيين بشجـاعته، وخـلَّص العــالم الإســلامــي بقوة إيمــانه من كوارث داخــليـة وخارجية كادت تودى به وتوقعه في أيدى أعدائه
وفاة مصطفى صادق الرافعي أديب العربية الأكبر 28 صفر 1356هـ :
الرافعي أديب العربية الأكبر ، و حامل لواء الأصالة و أديب الفكرة الإسلامية ، وجندي اللغة العربية ، قد بلغ ببيان قلمه سماء ما طاولتها سماء في زمانه ، ولا بلغها الأدباء ولا الشعراء في أوانه
قال عنه الزيات : الرافعي أمة وحده , وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه , إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي الله في قرآنه , وفهم إعجاز القرآن في بيانه , وأدرك سر العقيدة في إيمانه
اسمه : هو مصطفى صادق الرافعي بن الشيخ عبد الرّزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي
مولده و نشأته :
ولد الرافعي في قرية ( بَهْتيم ) من محافظة القليوبيّة في مصر ، في يناير 1880م .
والده الشيخ عبد الرازق الرافعي ، كان رئيسا للمحاكم الشرعية في كثير من محافظات مصر و آخرها طنطا ، ويمتدّ نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأمّه أسماء ابنة الشيخ أحمد الطوخي الحلبي الذي كان يدير تجارته بين مصر والشام .
نشأ في بيت دين وعلم ، وكان بيتهم مقصد العلماء ، وندوة المناظرات الدينية والأدبية ، ينهل منها الرافعي علماً وأدباً، وقد ظهرت بوادر نبوغه منذ طفولته فكان موضع اهتمام كبير من والديه .
بدأت دراسته بالكُتّاب وحفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين .
دخل المدرسة الابتدائية في دمنهـور وهو في الثانية عشرة من عمره ، ثم انتقل مع والده إلى المنصورة حيث نال الشهادة الابتدائية من مدرستها ، وظلّت هي الشهادة الرسمية الوحيدة في عمره كله بسبب ظروفه الصحّية التي أورثته الصمم فيما بعد ، وبقي يُعامَل من حيث الوظائف وميدان العمل على أساسها
وقد التحق "الرافعي" بوظيفة كاتب بمحكمة طلخا الشرعية سنة (1317هـ = 1899م)، ثم نُقل منها إلى محكمة إيتاي البارود، ثم إلى محكمة طنطا الشرعية، ومنها إلى محكمة طنطا الأهلية، وظل بها حتى وفاته.
تزوج من السيدة نفيسة البرقوقي أخت صديقه الأثير الشيخ محمد عبد الرحمن البرقوقي ، فكانت نعم الزوجة تعينه وتشدّ من أزره .
سمات أدب "الرافعي
نستطيع أن نبين أهم السمات والملامح التي تميز بها أدب "الرافعي" كما يلي:
أولاً: الأصالة الإسلامية:
من أولى السمات وأبرزها وأوضحها في آداب "الرافعي" السمة الإسلامية، وهي تتضح منذ نشأته وحتى مماته.. فبيته الذي نشأ فيه غرس فيه الروح الإسلامية، وظل ناشئًا معها محاطًا بها في كل أطوار حياته، ونرى السمة الإسلامية في نقده وثقافته، وفي إبداعه؛ وهو ما يدل على أنه كان يبغي وجه ربه في كتاباته، ومن هنا علَّق على نشيده "ربنا إياك ندعو" فقال: إني أعلق أملاً كبيرًا على غرس هذه المعاني في نفوس النشء المسلم، فالرجل لم يكتب لشهرة ولا لمال ولا لمنصب؛ وإنما كان الإسلام هو دافعه وموجهه.
ثانيًا: أصالة المعاني والألفاظ:
إن من يقرأ أدب "الرافعي" ويتمعن في سمو معانيه ودقة ألفاظه يقول: إن هذا الرجل لم يعشْ في القرن العشرين؛ وإنما عاش معاصرًا للجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان، والدليل على ذلك أنه ما وُجد أديب معاصر له قارب أسلوبه أو لغته أو فنه، وكان هذا دافعًا لوجود أعداء كثيرين له، بل لقد عاداه الكثير من أدباء عصره حيًّا وميتًا، ولم يذهب واحد من خصومه معزيًا أهله في وفاته، إلا رجل واحد كتب برقية إلى ولده؛ هو الدكتور "طه حسين".
ثالثًا: القوة في الحق:
القوة في الحق سمة بارزة في أدب "الرافعي" وفي كتاباته، فبرغم أن "العقاد" قال عنه يومًا: "إنه ليتفتق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما يتفتق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها"، إلا أن هذا لم يُغفر للعقاد أن يتناوله "الرافعي" بنقد شديد فيما بعد؛ حرصًا منه على فكرته، كما أننا لم نجد في كتاباته مداهنة لأحد ولا خوفًا من أحد، لقد كان العقاد كاتب الوفد الأول، إلا أن "الرافعي" لم يهبه، وكان "عبدالله عفيفي" شاعر الملك، إلا أنه لم يسلم من قلم "الرافعي"، هذه أبرز سمة في أدب "الرافعي" وهي تكفيه
مؤلفاته:
استطاع الرافعي خلال فترة حياته الأدبية التي تربو على خمسٍ وثلاثين سنة إنتاج مجموعة كبيرة ومهمة من الدواوين والكتب أصبحت علامات مميزة في تاريخ الأدب العربي الحديث.
(1) دواوينه الشعرية:
كان الرافعي شاعراً مطبوعاً بدأ قرض الشعر وهو في العشرين، وطبع الجزء الأول من ديوانه في عام 1903 وهو بعد لم يتجاوز الثالثة والعشرين، وقد قدّم له بمقدمة بارعة فصّل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه وأوليته.
وتألق نجم الرافعي الشاعر بعد الجزء الأول واستطاع بغير عناء أن يلفت نظر أدباء عصره، واستمر على دأبه فأصدر الجزأين الثاني والثالث من ديوانه. وبعد فترة أصدر ديوان النظرات، ولقي الرافعي حفاوة بالغة من علماء العربية وأدبائها قلّ نظيرها، حتى كتب إليه الإمام محمد عبده قائلاً: " أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل ".
(2) كتبه النثرية:
كتب الرافعي مجموعة من الكتب عُدت من عيون الأدب المعاصر
وأهمها:
1- تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد: وهو كتاب وقفه –كما يقول- على تبيان غلطات المجددين الذي يريدون بأغراضهم وأهوائهم أن يبتلوا الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، وهو في الأصل مجموعة مقالات كان ينشرها في الصحف في أعقاب خلافه مع طه حسين الذي احتل رده على كتاب " في الشعر الجاهلي " معظم صفحات الكتاب.
2- وحي القلم: وهو مجموعة من مقالاته النقدية والإنشائية المستوحاة من الحياة الاجتماعية المعاصرة والقصص والتاريخ الإسلامي المتناثرة في العديد من المجلات المصرية المشهورة في مطلع القرن الماضي مثل: الرسالة، والمؤيد والبلاغ والمقتطف والسياسة وغيرها.
3- تاريخ الأدب العربي: وهو كتاب في ثلاثة أجزاء، الأول: في أبواب الأدب والرواية والرواة والشواهد الشعرية، والثاني: في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأما الثالث: فقد انتقل الرافعي إلى رحمة ربه قبل أن يرى النور؛ فتولى تلميذه محمد سعيد العريان إخراجه
4- حديث القمر: هو ثاني كتبه النثرية وقد أنشأه بعد عودته من رحلة إلى لبنان عام 1912
5- كتاب المساكين: وهو كتاب قدّم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني، وهو فصول شتى ليس له وحدة تربطها سوى أنها صور من الآلام الإنسانية الكثيرة الألوان المتعددة الظلال. وقد أسند الكلام فيه إلى الشيخ علي الذي يصفه الرافعي بأنه: " الجبل الباذخ الأشم في هذه الإنسانية التي يتخبطها الفقر بأذاه "، وقد لقي هذا الكتاب احتفالاً كبيراً من أهل الأدب حتى قال عنه أحمد زكي باشاً: " لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهيجو كما للفرنسيين هيجو وجوته كما للألمان جوته ".
6- رسائل الأحزان: من روائع الرافعي الثلاثة؛ التي هي نفحات الحب التي تملكت قلبه وإشراقات روحه، وقد كانت لوعة القطيعة ومرارتها أوحت إليه برسائل الأحزان التي يقول فيها " هي رسائل الأحزان لا لأنها من الحزن جاءت؛ ولكن لأنها إلى الأحزان انتهت؛ ثم لأنها من لسان كان سلماً يترجم عن قلب كان حرباً؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان كالحياة ماضياً إلى قبر ".
7- السحاب الأحمر: وقد جاء بعد رسائل الأحزان، وهو يتمحور حول فلسفة البغض، وطيش القلب، ولؤم المرأة.
8- أوراق الورد رسائله ورسائلها: وهو طائفة من خواطر النفس المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالةً من حالاته ويثبت تاريخاً من تاريخه، كانت رسائل يناجي بها محبوبته في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه أو يبعث بها إلى خيالها
9- على السَّفُّود: وهو كتاب لم يكتب عليه اسم الرافعي وإنما رمز إليه بعبارة إمام من أئمة الأدب العربي؛ وهو عبارة عن مجموعة مقالات في نقد بعض نتاج العقاد الأدبي.
وفاته:
وظل "الرافعي" حتى آخر حياته متيقظ العقل، متوهج الفكر، لا يشكوا من علة معقدة أو مرض يلزمه الفراش، حتى استيقظ في فجر يوم الاثنين 28 صفر 1356هـ ، الموافق 10 مايو 1937م ، فتوضأ وصلى، وجلس يقرأ القرآن الكريم، وشعر باضطراب في معدته، فأعطاه ابنه الدكتور "محمد" دواء، وطلب منه أن يخلد للراحة والنوم، وبعد ساعتين استيقظ "الرافعي"، وبينما هو في طريقه إلى الحمام سقط مسلمًا الروح، بعد حياة لم تتجاوز ستين سنة، تاركًا تراثًا خالدًا، وذكرى عطرة.