في رحاب آية
د. يونس الأسطل
( تحصين الجيل بالأخلاق أعظم من تحصين الوطن بالأنفاق )
[رمز] وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [رمز]
القلم (4)
دُعِيتُ لأكثر من مدرسة ثانوية، لاسيما في محافظة رفح؛ للالتقاء بنخبة طلبة الثانوية العامة ذكراناً وإناثاً، ولإلقاء محاضرات فيهم، وقد طُلِبَ إليَّ أن يكون التركيز على الأخلاق؛ ذلك أن وسائل الاتصال الحديثة، وهي متيسرة في أيدي معظم الطلبة فقيرِهم وغنيِّهم، قد أَدَّتْ إلى انحرافاتٍ أخلاقية، باتتْ تهدد الجيل الجديد بالانحراف والفساد، فالفيس بوك، والجوال، وآلات التصوير، وغيرها قد أفضتْ إلى إثارة الغرائز، وتبادل الرسائل، وربما مقاطع غير لائقة لبعض المفاتن، وقد أثَّر ذلك كثيراً على سلوك الطلبة وتحصيلهم؛ فضلاً عن وقوعهم أسرى لموجات الغزو الفكري والأخلاقي، ويظهر ذلك في تقليعات الشعر، والأزياء اللاصقة بالأجساد المبرزة للعورات، وغير ذلك من مظاهر التميع والانحلال، وهو أخطر علينا من الاحتلال، ولن أكون مبالغاً أو مُتَجَنِّياً إذا جزمتُ بأن للاحتلال الصهيوني يداً في كلِّ ذلك؛ فإنه بعد أن فشل في تحقيق أهدافه في العدوان على غزة؛ كان لابد من غزوها بطرقٍ أخرى، ومنها المخدرات، والشائعات، والفواحش، وقد يتبعها السقوط الأمني؛ لتوفير موازنة المخدرات، أو ميزانية الفواحش بالعمالة، وقد أدَّى هذا ببعضهم في عددٍ من المرات إلى مداهمة البيوت، وقتل العجائز؛ بهدف الحصول على بعض الأموال لتغطية تلك الحاجات المُلِحَّة، والعياذ بالله.
هذا وقد ركَّزتُ في حديثي إلى أبنائي حديثي السن والتجربة على أن رسالة الإسلام جاءت تتميماً لمكارم الأخلاق؛ فقد كان العرب في الجاهلية يتصفون بكثير من الأخلاق؛ كالكرم، والشجاعة، وإقراء الضيف، وغيرها من الأخلاق الحسنة، ولكنها مشوبة بمظالم النساء، والأيتام، والمساكين، وغير ذلك من صور الانحراف، فجاءت دعوة الإسلام لتغيير ما كانوا يبغونه عِوَجاً، وإصلاح ما شابه بعض التشويه، وإحياء بعض الأخلاق الكريمة التي أغفلها عُرْفُ العرب في جاهليتهم، كالذين يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أو الذين أُحِصِروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إِلْحافاً، وكذا الذي ينفق في سبيل الله، ويُخفي صدقته؛ حتى لا تعلم شِماله ما أنفقتْ يمينه.
وقد أخبرتُهم أن العباداتِ لها مقاصدُ أخلاقية، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإن الإنسان خُلِقَ هلوعاً؛ إذا مسَّه الشرُّ جَزوعاً، وإذا مَسَّه الخير مَنوعاً؛ إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين هم على صلاتهم يحافظون، أولئك في جنات مكرمون في الآخرة، كما أنه بذكر الله تطمئن القلوب في الدنيا.
وأما الزكاة فقد أُمِرْنا بجبايتها لتطهير الناس وتزكيتهم بها، والتزكية هي أسمى درجات التربية، فإن مُخْرِجَ الزكاة يُخرج ألوهية المال من قلبه، ويتطهر من رذيلة البُخْل والشُّحِّ، كما أن المحتاج يتطهر من الحسد والبغضاء، ولا يحمله الجوع على سلوك طرقٍ غيرِ مشروعة للحصول على رمق الحياة، وبذلك يعيش الجميع في حياةٍ طيبة، ومتاعٍ حسن، وصلاحِ بال.
وأما الصوم فهو إمساك الجوارح كلها عن محارم الله، وما صوم الأفواه والأبضاع عن المحرمات المؤقتة إلا للتدريب على الهيمنة على بقية الأعضاء؛ فإن الإنسان خُلق ضعيفاً أمام تلكما الشهوتين؛ فإذا هزمهما بالصيام؛ كان لما سواهما أحفظ، ولذلك فإنَّ من لم يَدَعْ قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجةٌ أو إرادةٌ في أن يَدَعَ طعامه وشرابه، ورُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ولذلك فإنْ سابَّك أحدٌ أو شاتمك فلتقلْ: إني صائم، إني صائم، وبذلك يظهر أثر الصيام في سلوك الإنسان، صِبْغَةَ الله، ومَنْ أحسنُ من الله صبغةً؟!.
وأما الحجُّ فلا رَفَثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج، ومن حجَّ فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه، فضلاً عمَّا فيه من الخروج بالنفس والمال، ومفارقة الأهل والعيال، والصبر على قطع الفيافي والأودية؛ واحتمال الظمأ، والنَّصَب، والمخمصة، ويكفي أنه جهاد لا شوكة فيه، وأن الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة هو الذي يكون حال صاحبه بعد الحج أفضل منه قبل الحج.
أما آية المقال فإنها تأتي في جواب القسم بالكتابة والقلم، الذي ينفي به ما اتُّهِم به نبيُّنا عليه الصلاة والسلام من الجنون، وتؤكد أن له أجراً غيرَ مقطوعٍ، وأنه لعلى خُلُق عظيم، وقد اشْتُهِر في الجاهلية بذلك، حتى كان يُنعت بالصادق الأمين، فضلاً عن الكرم والحلم والشجاعة، والعطف على الضعيف، وكل المعادن الطيبة التي فُطِر عليها أفضل بشرٍ في الوجود، ومن أراد أن يعرف حقيقة خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم فليقرأ القرآن، فقد كان قرآناً يمشي على الأرض، ولقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً، ومع ذلك فقد قارب الذين كفروا أن يزلقوه بأبصارهم لمَّا سمعوا الذكر، ويقولون: إنه لمجنون، وأَنَّى لمجنون أن يكون على خُلُق عظيم؟!، ولكنها التهمة القديمة لكل رسول أنه مجنون وازْدُجِر، كما وُصف بذلك سيدنا نوحٌ عليه السلام، وأما سيدنا موسى عليه السلام فقد نعته فرعون بأنه مُعَلَّمٌ مجنون، وأن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون، بل جاء تعميم هذه التهمة في سائر الأنبياء في قوله تعالى:
" كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ " الذاريات (52)
إن علينا واجباً في أعناقنا أن نسعى سعياً حثيثاً لتحصين أجيال الشباب والأشبال مما يُبَيِّتُه لنا الاحتلال من هزيمة عقيدتنا بالاختلال، وأخلاقنا بالانحلال؛ لعله يتمكن يوماً من أعناق الرجال، ويُنْزل بنا ما شاء من الاغتيال أو الاعتقال، وأَنَّى له ذلك ومولانا هو الكبير المتعال، ومالهم من دونه من وال.
والله غالبٌ على أمره