الحق اجتمع في شخص النبي صلى الله عليه وسلم حصرًا، وتوزع في أمته نثرًا
مقالةٌ مهمة في زمن معركة الأفكار.
عندما ألقي نظرةً على منشورات الأصدقاء أرى أن كثيرًا منهم ينطق بالعموميات المتفق عليها غالبًا، لكنه لا يستطيع تطبيق ما يقول على نفسه عند النزول للتمثيل في الواقع، ويأخذ في التشنج لقناعاته، وتكون هي المعيار على الحق أو الباطل، بحيث إنه بمجرد أن يسمع فكرةً أخرى يفكر في كيفية نسفها واستئصالها، لا في إمكانية الاستفادة منها، وقد تتضمن حقًّا كاملًا أو بعض حق..
ولهذا يذكر أهل السِّير أن الصفة التي اشتهر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ظاهره كباطنه، وأنه بمجرد أن يرى الحق يكون من أهله، والدعاة إليه، ولو كان بالأمس يجلد أصحابه بالسيف، أما اليوم فلو نظر الإنسان إلى السنوات الأخيرة من عمره فقل أن تجده غيَّر مفهومًا رئيسًا في حياته وقناعاته..
والحق الذي أدين الله به أن الحق اجتمع في مجموع الناس، فما حصر الحق بعد زمن النبوة أحد، ولو كان هذا الأحد فردًا أو جماعة أو دولة، بل كما أن الإنسان تختلط حسناته بسيئاته.. فالهيئات والحركات والجماعات كذلك، ولن نختلف عن أن بعض الجماعات يغلب عليها الحق وبعضها يغلب عليها الباطل، لكن في الغالب لن ترى شرًّا محضًا، أو خيرًا محضًا، حتى إن كفار قريش رغم عبادتهم الأصنام كانوا يؤمنون بالله خالقًا ومدبرًا، وهو توحيد الربوبية، ولهذا قال الله عنهم: {قليلًا ما تؤمنون} فعندهم حظ من الإيمان، لكنه لا يبلغهم النجاة من النار، ودخول الجنة، أما اليوم فكثيرة هي الخصومات التي ينسف الرجل فيها خصومه رأسًا وفرعًا.
والمسلم الصادق في انتمائه يبحث عن الحسنات ولو كانت في غير طائفته، وينبذ الباطل ولو كان عند طائفته، فهو يدور حيث وُجِد الحق، ولا يضره أن يظهر على لسان ألد أعدائه، فمنهجه جمع الحسنات من أي أحد، وترك سيئات أي أحد.
هنا نقاط خمس أختم بها:
1) أغلب الشبهات التي تصطاد شباب الإسلام اليوم آتيةٌ من اختلاط الحق بالباطل في شخصٍ واحدٍ، أو طائفةٍ واحدة، ولهذا لما حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الخوارج ذكر بعض صفاتهم الحسنة من مثل أن أحدَكم يحقر صلاته إلى صلاتهم، وأنهم يقولون من قول خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن القول الصحيح لا يُصَحَّح معه الفعل القبيح، فلو قام خلافٌ تجد أن الرجل منهم يقول: وهل إتقان الصلاة منقصة؟ وهل التصريح بالحق مذمة؟ نقول: لا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا؛ لئلا يغتر أحد بهذه الحسنات، ويحمله ذلك على قبول العظائم والسيئات، وأن قول الخير لا يشفع لصاحبه الأفعال القبيحة.
2) المعيار الذي ينطلق منه كثيرٌ من الناس: طائفته وحركته وجماعته ولو ادعى أنه ليس جماعة، وفرارًا من هذا الخصام نركض إلى الاحتكام إلى الخطاب الشرعي من الكتاب والسنة مباشرة، وبهذا نتوقى محاولة من يريد هدم فكرة صحيحة لسوءٍ في حاملها؛ لأن الرجال يعرفون بالحق من غير عكس، وهنا مزيد تفصيل لا تحتمله هذه المقالة، والطين يزداد بلة هنا عند الجهل بمقامات الخلاف ورتبه، وهل هو في العقيدة أو في الفقه؟ وهل هو من السائغ أو لا؟ وغير ذلك.
3) أحيانًا يكون الرجل بارد الطبع، فيُهَوِّن قضايا كبيرة لا لأنها كذلك في الشريعة؛ بل لأن تعامله مع القضايا كذلك؛ احتكامًا لطبعه وسجيته، وقد يكون الرجل حاد الطبع، عصبي المزاج، فتجده يحارب خصمه لذلك في مسألة يتحملها الخلاف، ثم يعلل صراخه بالغيرة على الدين والحرمات والعقيدة، وما درى أن الشريعة لو تكلمت لأسكتته، فإن العيب من أخلاقه لا غير.
4) بعض الناس ينطلق في التصورات من التخصص الذي أبدع فيه؛ فإذا كان منشغلًا بالإعلام أو السياسة أو الفكر أو غير ذلك.. جعل مفاهيم علمه هي الحكم الذي لا يَظلم ولا يخطئ، وواجبٌ على هذا إن ابتغى الحق أن يحرص على تعلم قواعد الشريعة لا قواعد العلم الذي دخله فحسب، وهذا باب صعب؛ لأنه يتطلب قدرة على التحكم في العواطف، واعترافًا بالجهل في كثيرٍ من الأحيان، وما كل أحد يجيد هذا ويقدر عليه، وأحيانًا يتطلب الجمع بين أكثر من تخصص لتنضج الرؤية، فيحصل الظلم للقضية باجتزائها من غير أن ينتبه إلى ذلك.
5) كثيرةٌ هي الخلافات التي لا يكون فيها أحد الطرفين مبطلًا، بل غاية ما في الأمر أن الطرفين يترددان بين الأجر والأجرين بحسب الإصابة أو الخطأ في المسائل الاجتهادية، لكن المعارك تشتعل بسبب تلبيس بعض المسائل الفقهية ثوب المسائل العقدية؛ لدخول يسيرٍ لها في ذلك..
والقضية الأهم: أن أفراد كل فريق لا يحبون الطرف الآخر، وربما كانوا يحقدون عليه، فيتوجهون إلى الاتهامات بأنهم يضيعون الدين ونحو ذلك، والقضية في الأخلاق لا في القناعات ولا حتى في الاعتقاد في كثيرٍ من الأحيان.
ورحم الله من قال: الفرق بين السلف والخلف: الإنصاف، حضر عندهم وغاب عنا، والله المستعان.