النشاط على مدار الساعة
برهــــــان الإشفــــاق مـــن الساعـــــــة
] تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ،
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ؛ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ، وَنَرَاهُ قَرِيبًا [
سورة المعارج [4 – 7]
حضرتُ أكثر من مجلس علمٍ مع شرائحَ من الإخوة عُمَّار المساجد، فَهَالني جوانبُ من القصور، ما كان للمسلم أن يَهْوِيَ فيها، فكيف بمن يرون أنفسهم فريقًا في معشر الدعاة، ويَعَدُّهم الناس سبيكة الذهب ومعقد النجاة، أولئك الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويُحَرِّضون الناس على الدخول في السلم كافة، ويقومون بجَهدٍ مشكور في الإعداد والتربية؛ زيادةً في تعبيد الناس لربهم، ولتكون جهود الجميع كالعِصِيِّ اللواتي إذا اجتمعن أَبَيْنَ تكسرًا، وإذا افترقن تكسرت آحادًا؟!.
صلاة الفجر في خطر:
ذلك أن صلاةَ الفجرِ في المسجد تشتكي فُقدانَ طائفةٍ من الشباب المنتسب إلى حِلَقِ العلم والدعوة والتربية والجهاد، بينما تجدُ في الأصدقاء، وسائر الناس، عددًا لا تكاد تخطئه صلاة الجماعة، فضلًا عن صلاة الفجر، وأخشى أن يكون بعض الخوالف عنها يُدْخِلون الغَمَّ عليها، وهي ترقب الأرض تشرق بنور ربها، بينما هم لا زالوا في سُباتٍ عميق !!.
ولا يشفع لهؤلاء الانشغال في الطاعة آناء الليل؛ فإن أَتَمَّ الأمة إيمانًا، وأكثرها طاعة وانشغالًا بأعباء الدعوة والرسالة، كان يقوم الليل إلا قليلًا، نصفه أو يُنقِصُ منه قليلًا، أو يزيدُ عليه، فضلًا عن حضوره لصلاة الفجر، والتبكير إليها !!
وعلى هذا الهَدْيِ ثبت أهلُ الصدقِ في العلم والعمل والدعوة والجهاد، فهذا الشيخ عبد الله عزام شيخ المجاهدين في أفغانستان يجمع بين فروسية النهار، ورهبانية الليل.
وأترك المجال للشيخ طارق سويدان كي يدلي بشهادته:
قال: سافرت لِحُضُور مؤتمرٍ إسلاميٍّ بِأَمريكَا، وبينما أنا أحمل بَعْضَ أَمتِعَتِي لأَنَام؛ وإذْ بِشَيخِ المجاهدين في أفغانستان عبد الله عزام يَصِل، فاصطحبتُهُ لِيَنامَ معي في غرفة الشيخ عمر الأشقر.
وما إن جالسناه حتى تبين لنا أنه قَدِمَ من باكستان إلى لندن، ثم إلى نيويورك وبعدها إلى أكلهوما، وأنه من يومين كاملين يتردد بين المطارات دون أن يَنَام لحظةً، ولذا شَرَعَ في النَّومِ مُباشَرةً.
استيقظت بعد ساعتين فَوَجَدْتُ الشيخ في مَشْهدٍ لا أنْسَاه، مَشهدٍ ما أبهاه، وما أحلاه، لقد وجدت الشيخ قائمًا يتهجد من الليل، رغم كل هذا التعب والسَّهَر، الذي لو أصابنا بعضُهُ ربما رَخَّصْنَا لأنفسِنَا النَّومَ عن صَلاةِ الفَجْر !!
وقد وفق الله الدكتور أحمد نوفل أن يُنْصِفَهُ بقوله:
لقد كان الشيخُ –والله- اسْمًا على مُسَمَّى؛ إذ اجتمعت له العبادةُ والعزم، فَسُبْحَان الذي اختار له الاسم، واختار له المُسَمَّى !!
والجيوب صامتة:
فإذا طولبت تلك الفئة بالصدقات المالية للفقراء والمساكين والفئة الغارمة، ومصالح المسلمين العامة؛ تطهيرًا لنفوسها وأموالها؛ بَخِلوا به وأظهروا أضغانهم، وكأنهم يخافون أن يَحِيفَ الله عليهم ورسوله، مع أنه مَنْ تزكى فإنما يتزكى لنفسه، ومَنْ يبخلْ فإنما يبخلُ عن نفسه، والله الغنيُّ وأنتم الفقراء، وإنْ تتولوا يستبدل قومًا غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم.
ورياض الجنة تَئِن:
ثم إن المجالس العلمية، والدروس القرآنية والفقهية والعقدية والتربوية تنتظر أفرادًا منهم أسابيعَ أو شهورًا حتى يصلوا رحمها، ويَمُنُّوا عليها بزيارةٍ يتيمة، وعليها أن تنتظر طويلاً حتى تكتحل عيونها برؤيتهم تارةً أخرى !!
وفي تلك الساعة التي يحضرونها قد يشوشون على شيخ المجلس العلمي بأسئلةٍ في السياسة، أو الشكوى في الشئون الخاصة، بل وربما يَلِجُونَ درك الغيبة واللغو التي تساوي في الإثم من يأكل لحم أخيه ميتًا، وهم محبون ملتذون بذلك، حتى يُختم اللقاء العلمي بلا متون شُرِحت، ولا آثار فُهِمت، ولا أفكار دُرِست، وإن خرج منها تفاخر أنه ممن ينتسب إلى العلم والتربية زورًا وبهتانًا.
وإذا حضرت اللقاءات العامة؛ كالمؤتمرات العلمية، ودروس المساجد الأسبوعية، أو المسيرات الاحتجاجية؛ كمجابهة الفيلم المسيء إلى نبينا r، وحتى تلك التي تنطلق ابتهاجًا بانتصار أو إنجاز، لا يحضر بعضهم إلا لمامًا، ويتساءل الحاضرون: ما لنا لا نرى رجالًا كنا نَعُدُّهم من الأبرار، أحاضرون هم، أم زاغت عنهم الأبصار؟!.
غفلة داعية:
إن أولئك الإخوة يغفُلون عن أن الداعية لا يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه، إنما يريد الإصلاح ما استطاع، وما توفيقه إلا بالله، بينما الذين يأمرون الناس بالبِرِّ، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أكثرهم لا يعقلون؛ فقد كَبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون؛ ذلك أن الأولى أن تكونوا للمتقين إمامًا؛ ليكون للناس فيكم أُسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ..
وإلَّا فقد أخرج البخاري في الذي يأمر الناس بالمعروف ولا يأتيه، وينهاهم عن المنكر ويأتيه، أنه يُلْقى في جهنم، فتندلق أقتابه وأمعاؤه من دُبره، فيدور بها كما يدور الحمار بِرَحاه، ويجتمع عليه أهل النار، ويفتضح في العالمين، والعياذ بالله تعالى([1]).
إني أعظكم بِوَاحِدَةٍ:
ولذلك فقد رأيت أن أعظكم بواحدة؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين، معذرةً إلى ربكم، ولعلهم يتقون.
وقد اخترت تلك الواحدة من صدر سورة المعارج، تلك السورة التي تَمَحَّضتْ للحديث عن أهوال القيامة، فإذا بها تخبر عن يوم الحشر، وهو يوم عسير على الكافرين غير يسير؛ بأن طوله خمسون ألف سنة، تعرج فيه الملائكة وجبريل إلى بارئهم؛ ليتلقفوا الأوامر والتكاليف، فإذا قال لهم عن بعض أكابر مجرميها: خُذُوه فَغُلُّوه، ثم الجحيم صَلُّوه، ثم في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعون ذراعًا فاسلكوه، أو خُذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صُبُّوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ابتدره سبعون ألف ملك، من الغلاظ الشداد الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون !!
إن أكثر أعمار هذه الأمة بين الستين والسبعين، وقليل منا الذين يجاوزون السبعين، ومنكم من يُتَوَفَّى من قبل، فإذا حذفنا ما قبل البلوغ والتكليف انحصر العمر في خمسين سنة تقريبًا، وعندئذٍ يكون مُقامنا في الحشر قبل أن نُساق إلى الجنة زُمَرًا بإذن الله، وقبل أن يُساق أهل النار إليها زُمَرًا كذلك ألفَ ضِعْفٍ؛ بالقياس إلى دنيانا التي لا تساوي في الآخرة يومًا أو بعض يوم، بل عشية أو ضحاها، أو ساعة من نهار نتعارف فيها، لعلنا نكون في الدنيا كالغريب أو عابر السبيل، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
إنَّ مما يؤكد أن الخمسين ألف سنة هي طول يوم الحشر ما جاء على لسان نبينا r من الترهيب من البخل بالزكاة؛ فإن الذي لا يؤدي زكاة ماله يُعَذَّبُ بها في الحشر؛ فإن كان ماله ذهباً وفضة جعلته الملائكة يوم القيامة صفائح، يُحْمَى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، حتى يُرى مصيره؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار !!
وهكذا الحال في أصحاب الأموال الأخرى، خاصة الأنعام التي لا تُخْرَجُ زكاتها، فإنها تكون في الحشر أسمن ما كانت، بينما بُطِحَ صاحبها بقاعٍ قرقر، وطَفِقَتْ تدوسه بقوائمها، وتنطحه بقرونها، كلما مَرَّ عليه آخرها عاد عليه أولُّها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُرى مصيره، هل هو شقيٌّ أو سعيد([2])؟!.
هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ:
إنه من رحمة الله بنا أن ذلك اليوم العبوس القمطرير، الذي يجعل الوِلْدان شيبًا، يَمُرُّ بنا كوقت صلاة كنا نؤديها في الدنيا، فليس مَنْ يُلْقى في النار كمن يأتي آمنًا يوم القيامة، فإن هؤلاء لا يَحْزُنُهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة قائلين: هذا يومكم الذي كنتم توعدون، ففيه النعيم المقيم، والمقام الأمين، في جنات وعيون، على سُرُرٍ متقابلين، لا يَمَسُّهم فيها نَصَبٌ، وما هم منها بمخرجين، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن، إن ربنا لغفور شكور، الذي أَحَلَّنا دار المقامة من فضله، لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ، ولا يَمَسُّنا فيها لُغُوب ..
أو يقولون: الحمد لله الذي صدقنا وَعَدَهُ، وأورثنا الأرض نَتَبَوَّأُ من الجنة حيث نشاء، ولكم فيها ما تَشْتَهِيهِ الأنفس، وتَلَذُّ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فأنتم في سدرٍ مخضود، وطَلْحٍ منضود، وظلٍّ ممدود، وماءٍ مسكوب، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفُرُش مرفوعة ..
حتى تُطَلِّقَ العاجلةَ ثلاثَ طلقاتٍ عاجلةٍ:
إن الله جل جلاله قد نَعى على الذين يحبون العاجلة، ويذرون وراءهم يومًا ثقيلاً، بينما امتدح الذين يُقبلون على الآخرة، أولئك الذين يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، فلا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ فإن الساعة أدهى وأمرُّ، والذين آمنوا مشفقون منها، ويعلمون أنها الحقُّ، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وَجِلةٌ أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يُسارعون في الخيرات، وهم لها سابقون؛ لعلهم إذا لم تقبل أعمالهم الأُولى أن يكونوا فيما سارعوا إليه من الخيرات، واستبقوا له، قد أصابوا طاعةً أخلصوا فيها لله تعالى، فتقبلها منهم، وزحزحهم بها عن النار، وأدخلهم الجنة ففازوا، وذلك الفوز العظيم.
وختامًا: صيحة نذير:
صدح قلبي بالسؤال قائلًا:
كيف يهنأ شبابٌ منتسبون للإسلام، قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله U؛ بأن لهم الجنة، كيف يهنؤون بالراحة والفتور، أو الإهمال والفراغ، وهم يرون أمة الإسلام لا توازي خُمُس البشر، والبقية ذاهبون إلى لظى وسَقَر، أو الحُطَمة والسعير، أو الهاوية والجحيم؛ بل إن المعدودين في هذه الأمة لا يكاد ينجو الخمس منهم؛ فإن أكثرهم ظالمٌ لنفسه، قد خلطوا عملاً صالحًا، وآخر سَيِّئًا، هذا إذا لم يكونوا مرتدين بالإلحاد وسوء الاعتقاد، أو متورطين في الولاء للأعداء، ومحبطات الأعمال؛ فإن نواقض الإيمان كثيرة، وقد تقعون فيها وأنتم لا تعلمون، وعندها تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
إذا كان خُمُسُ الخُمُسِ هم الناجين يوم الدين، فمن يضمن لنا أن نكون فيهم؟! ومن الذي يجادل الله عنا يوم القيامة لنحشر في صَفِّهِم، أم من يكون لنا وكيلًا؟!!
وماذا نقول لربنا وقد جعلنا خير أمة أخرجت للناس؛ لننقذهم من نارٍ هم على شفا حفرة منها؟!
ومتى يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون ما دام فينا ثلةٌ من القائلين: ذرنا نكن مع القاعدين، وليسوا بمعذورين؟!
اللهَ اللهَ في أنفسكم، وأهليكم، وأمتكم، والعالمين، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت، وهم لا يظلمون.
اللهم بلغت، اللهم فاشهد
([1]) صحيح البخاري، رقم الحديث: (3267)، (4/121).
([2]) فقد أخرج مسلمٌ من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار".
قيل: يا رسول الله فالإبل، قال: " ولا صاحب إبل لا يؤدى منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" ..
والحديث بطوله عند مسلم برقم: (2337)، (3/70).