في رحاب آية
د. يونس الأسطل
( عيد الأضحى تضحية بالنفس والبنين قد أضحى )
] لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [
الحج (37)
مع اقتراب عيد الأضحى المبارك كان لا بد من موعظة تحفيزية، وذكرى تنفع المؤمنين؛ بشأن الأضاحي، تلك التي تُعَدُّ من اتِّباع ملة إبراهيم؛ فإنه لمَّا هاجر إلى ربِّه من العراق إلى فلسطين، وصار فيها وحيداً من عشيرته الأقربين؛ سأل الله تعالى أن يهبه ولداً من الصالحين، وكان شيخاً كبيراً، كما كانت زوجُه الأُولى عجوزاً عقيماً، فلما تزوَّج بِأُمِّنا (هاجر) القبطية رزقه الله منها بأبينا (إسماعيل)، وقد أسكنهما بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيت الله المحرَّم بأمر من الله؛ تمهيداً لرفع القواعد من البيت، والأذان في الناس بالحج، بعد أن أحيا الله تبارك وتعالى تلك المنطقة بماء زمزم، وجعل أفئدة قبيلة جُرْهُم تهوي إليهم، ورزقهم من الطيبات؛ بل جعل مكة بلداً آمناً، يُجْبَى إليه ثمرات كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان؛ فقد أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وجعلها حرماً آمناً، ويُتَخطَّفُ الناس من حولهم، كل ذلك بفضل دعاء سيدنا إبراهيم لها بالأمن والرزق.
وما كاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام يبلغ مع أبيه السعيَ حتى رأى في المنام أنه يذبحه، وهو وَحْيٌ من الله، فراح يُطْلِعُ ولده على ما أمره به ربُّه، ويُخَيِّرُه في ذلك: (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) الصافات (102)، فما كان منه إلَّا أن حَرَّضَ أباه على تنفيذ أمر الله، ووعده أن يجده –بمشيئة الله- من الصابرين، وقد وافق يومُ التنفيذ العاشرَ من ذي الحجة، فلمَّا تَلَّهُ للجبين، ولم يَبْقَ إلا حَزُّ السكين، ناداه ربُّه أن يا إبراهيم قد صَدَّقْتَ الرؤيا، وفداه بكبشٍ عظيم، وكانت سُنَّةً من بعده؛ لنقتديَ بهداهم، ونفتديَ أنفسنا بأضحية في كلِّ عام، تَسُدُّ عن الرجل وجميع مَنْ يعولهم من أهله؛ إذا ملك ثمن الأضحية ونفقة أيام العيد، وإنْ لم يفعل فلا يقربَنَّ مصلانا، حتى يُحْرَمَ من بهجة العيد، وثوابه الأكيد.
إن أول درسٍ نتعلمه من الأضاحي هو أن حقيقة الإسلام هي الاستسلام لأمر الله، مهما كان ثقيلاً على النفس، حتى لو أنه كَتَبَ عليكم أن اقتلوا أنفسَكم، أوِ اخرجوا من دياركم، مع أنه سبحانه لو شاء لأعنتكم، ولكنه ما جعل عليكم في الدين من حرج؛ فهل يُوجد تكليفٌ أشقُّ على النفس من شيخٍ كبيرٍ يؤمر بذبح ولده الوحيد بنفسه، وقد رُزِقَه على حين فترةٍ من الإنجاب، وحين بلغ معه السعي، وصار قادراً على الكسب، وكان الأمر بمجرد رؤيا منامية؟!!.
ولعل الدرس الثاني هو أن يقوم الآباء بإغراء أبنائهم بالجهاد في سبيل الله، والرغبة في الشهادة، وأن يندفع الأبناء إلى القتال في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة؛ فإنه لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، إنما ينطلقون لذلك دون انتظار الإذن، فإنما ينتظر الإذن الذين هم في رَيْبِهم يَتَرَدَّدُون؛ عسى ألَّا يؤذن لهم، فيقعدوا مع القاعدين، ولا يفعلها إلا الظانُّون بالله ظنَّ السَّوْء، فإنهم قد أَهَمَّتْهم أنفسهم، فرغبوا بها عن إخوانهم أن يقاتلوا في سبيل الله، أو أن يدفعوا عن أنفسهم.
وإن مَنْ أوفى بما عاهد عليهُ اللهَ أكرمه الله بأن أبقى له نفسه، وردَّ إليه ماله مضاعفاً، وجمع له بين الثمن والمثمَّن، فهم أحياء عند ربهم يرزقون، ونصيبهم من الغنائم أضعافُ أضعافُ ما أنفقوه في الإعداد والجهاد، فقد وعدكم الله مغانمَ كثيرةً تأخذونها، حتى لو ظننتم أنكم لا تقدرون عليها، قد أحاط الله بها، وهي أموال الدول الكبرى؛ فإنهم مهما ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله؛ فإن الله يأتيهم من حيث لم يحتسبوا، ويقذف في قلوبهم الرعب، ويورثكم أرضَهم، وديارَهم، وأموالَهم، وأرضاً لم تطؤوها، وكان الله على كلِّ شيءٍ قديرا.
إن آية المقال تخبرنا أن المقصد من الأضاحي ليس كما كان أهل الشرك يفعلون؛ إذْ يُلَطِّخون أصنامهم بدمائها، ويضعون اللحوم عندها للبركة، وربما قام بعضهم بالشواء عندها؛ اعتقاداً منهم أن الأوثان تطرب لرائحتها، فترضى عنهم، وتقربهم إلى الله زُلْفى؛ إنما يصل إلى الله، ويرتفع عنده، ما يصاحبها من التقوى، تلك التي تبدأ باقتنائها وتسمينها، أو شرائها من أجود الأنواع؛ فإنها من شعائر الله، ومن يُعَظِّمْ شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، ثم بأن يَطيبوا بها نفساً؛ مادام فيها رضا الله، وقد جعلها فداءً لأنفسنا من الهلاك، وعند ذبحها نذكر اسم الله عليها، وقد جعل الله لكلِّ أمةٍ منسكاً؛ ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بَهيمة الأنعام، ثم بالأكل منها، وإطعام السائل بحاله، وهو المُعْتَرُّ، أو بمقاله وهو القانع، وربما أُريد بالقانعين الفقراء الذين لا يُتَفَطَّنُ لهم، والذين أحصروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياءَ من التعفف؛ فإنه يستحب أن يكون فيها نصيب للأهل أولاً، وللمساكين ثانياً، وللأرحام والجيران ثالثاً، وماذا على ذي الفضل منكم والسعة لو يذبح كبشين أو ثلاثاً، أو أن يتفرَّد بعجلٍ سمين؛ ليدخل السرور على كثير من الناس؛ تحدثاً بنعمة الله، وشكراً للحياة التي تتجدد عاماً بعد عام، ولينال من المغفرة والأجر والجنة ما يجعله في عِلِّيين مع النبيين، والصِّدِّيقين، والشهداء، والصالحين.
ومن المعلوم أن البُدْنَ من الإبل والبقر أقوى منا بكثير، لكنَّ الله هو الذي سَخَّرها لنا حمولةً وفَرْشاً؛ لتعلموا أن الله الكبير هو الذي جعلها تنقاد لكم، فتكبروه في العيد، وفي غير العيد، وتكونوا بذلك من المهتدين المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فتفوزوا بالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وكل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال