رمضانُ قد آب، مبشِّراً بفاكهةٍ كثيرةٍ وشراب، وبقاصراتِ الطَّرْفِ أَتْراب
في رحاب آية
د. يونس الأسطل
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) الحاقة (24)
يذهب كثير من الخطباء والواعظين للتركيز على فضائل الصيام في مثل هذه الأيام، وجرياً على دأبهم هذا أتناول اليوم بعض تلك الفضائل، لا فيما يحصل في الدنيا، فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ولكنْ في بعض النعيم الذي أعدَّه الله للمؤمنين الصائمين في الجنة، خاصة ما كان من أنواع الطعام، وألوان الشراب، في مقابل تركهم طعامهم وشرابهم إيماناً بالفريضة؛ بل بالركن الرابع للإسلام، وأن لله الحكمةَ البالغةَ في إيجابه، واحتساباً لوجه الله تعالى، فلا يبتغون به غير المغفرة والجنة، ورضوانِ الله الأكبر، وليكون عوناً لهم على التقوى؛ فإنه جُنَّةٌ ووقاية من كثير من شرور الدنيا.
إن آية المقال تخبر بامتنان الله على عباده الذين يُؤْتَى كلُّ واحدٍ منهم كتابه بيمينه؛ لأنه أراد الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ إذْ يقال لهم وهم في جنة عالية، قُطوفها دانية: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)، وهي أيام الدنيا التي خلق الله عز وجل فيها الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً، ومن أجل ذلك فقد أصابهم الظمأ والنصب والمخمصة، فَكُتِبَ لهم به عملٌ صالح؛ إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولذلك يقال لهم: " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " الطور (19)، والمرسلات (43).
إن هذه الآيات جاءت مجملةً في التنعُّمِ بالطعام والشَّراب، فلم تبيِّن ماذا يأكلون، وماذا يشربون، وفي هذا المقال أَتَتَبَّعُ أبرز ما ورد من صنوف الأطعمة والأشربة التي وَعَدَ الرحمن عباده بالغيب؛ إنه كان وَعْدُهُ مأتياً، ودعونا نبدأْ بالأُكُل:
إن أول طعام يأكله أهل الجنة هو زيادة كبد الحوت، وإذا كان عموم السمك لحماً طرياً؛ فما بالكم بالكبد منه؟!، وكيف إذا كان المقدَّم منه هو زيادةَ الكبد، والظاهر أنها أشهى شيءٍ فيه.
ثم إن لهم فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، ولا غرض لي هنا بالتعريج المبين على مفاتن الحور العين اللائي هُنَّ كأمثال اللؤلؤ المكنون جمالاً وصفاءً، كأنهن الياقوت والمَرْجان، مع أن الصائمين جديرون أن يُبَشَّروا فيها بأزواجٍ مطهرةٍ قاصراتِ الطَّرفِ أَتْراب، فقد كانوا لفروجهم حافظين، حتى على أزواجهم وما ملكت أيمانهم، وبالأحرى فإنهم لا يبتغون ما وراء ذلك، وتلك حدود الله فلا تقربوها.
أما الفاكهة فهي كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وقد عَدَّ منها السِّدْرَ المخضوض، والطَّلْحَ المنضود، كما ذكر النخل والرمان، بل فيها من كلِّ فاكهةٍ زوجان، ومن هنا فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كلما رُزِقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رُزقْنا من قبلُ، وأُتُوا به متشابهاً، ولهم فيها من كلِّ الثمرات، ومغفرةٌ من ربِّهم، ولهم فيها فاكهة كثيرة، منها يأكلون، ومهما أَكَلوا فلن تَنْفَدَ شهيتهم للمزيد؛ فإنهم إذا ملؤوا البطون كان خراجهم رشحاً تَتَشَرَّبُه حلل السندس والإستبرق، وهو أطيب من ريح المسك، فإذا هي خِماصٌ، ومتى اشتهى أحدهم نوعاً من الفاكهة وجد قطوفها دانيةً، فقد ذُلِّلَتْ قطوفها تذليلاً، ولن يحتاج أن يعتدل من الاتكاء على الأرائك، فهم في شُغُل فاكهون، ومنه قطف الثمار، وافتضاض الأبكار، فقد أنشأهن الله إنشاءً، فجعلهنَّ أبكاراً، عُرُباً أتراباً.
وأما اللحوم فهي قاصرة على الطيور دون بهيمة الأنعام؛ لأنها ألذُّ من الضأن والمعز، فضلاً عن الإبل والبقر، وقد جاء في الأثر أن أحداً من أهل الجنة إذا رأى طيراً في جَوِّ الجنة، فاشتهاه، فما عليه إلا أن يتلفَّظ بكلمتين: "سبحانك اللهم" حتى يجده يَخِرُّ مَشْوِيَّاً بين يديه، وقد دلَّ لذلك قوله تعالى:
" دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " يونس (10)
فإن أول دعائهم (سبحانك اللهم)، وهم يختمون أكلهم بحمد الله تعالى، وهم لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً، ولهم رزقهم فيها بُكرةً وعشياً.
وأما الشراب فهو أنهارٌ من ماءٍ غيرِ آسنٍ، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغيَّرْ طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لَذَّةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مُصَفَّى، فضلاً عن عيون الكافور، والسلسبيل، والتسنيم التي يُفَجِّرونها في الجنة حيث يشاؤون تفجيراً، والمقربون لهم جنتان، فيهما عينان تجريان، وأما الأبرار فلهم من دونهما جنتان، فيهما عينان نَضَّاختان، ويطوف عليهم غِلْمانٌ لهم كأنهم لؤلؤٌ مكنون، فهم مُخَلَّدون، إذا رأيتَهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، وهم يطوفون بأكوابٍ وأباريق، وكأسٍ من معين، ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ، وأكوابٍ كانت قواريراً، قواريرَ من فضةٍ قَدَّروها تقديراً، وهم يَدْعُونَ فيها بفاكهةٍ كثيرةٍ وشراب.
إن مَنْ أيقنَ أن هذه هي الجنة التي يُورثها الله من عباده مَنْ كان تقياً وَدَّ لو أن رمضان كان السَّنَةَ كلَّها، وإنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، وإن الصوم نصف الصبر، بينما المجرمون يقال لهم في هذه الحياة الدنيا: " كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ " المرسلات(46)، فهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم، بل قال الله عز وجل عنهم:
" ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " الحجر (3)
والعياذ بالله تعالى أن يأتي رمضان فلا ندخل به الجنان، أو أن نكون على شفا حفرة من النيران، وتقبل الله منا ومنكم القُرُبات.