بريطانيا قررت الانفصال عن أوروبا.. كيف ولماذا؟ حسام شاكر


تم النشر 29 يونيه 2016


عدد المشاهدات: 1741

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


انقشعت الهالة التي أحاطت بمشروع الوحدة الأوروبية، وحمل 23 يونيو/حزيران أعظم انتكاسة لها بعد أن اعتادت على التوسع. فـالاستفتاء البريطاني التاريخي لم يكن شأنا محليا، بل واكبته أوروبا بعناية لأنه يعني الكثير لمستقبل المشروع الذي استثمرت فيه القارة جهودا هائلة وموارد سخية عبر ثلثي قرن، ومكثت فيه بريطانيا أربعة عقود. نظرة تشريحية للاقتراع قالت بريطانيا لا، وأظهرت توجهات مناطقية متعارضة بوضوح في رقعتها. مالت المناطق الأوسع من إنجلترا إلى مغادرة العباءة الأوروبية، بينما صوّتت أغلبية لندن وأسكتلندا وإيرلندا الشمالية مع البقاء ضمنها. ويفتح ذلك نافذة أمل لنزعات الاستقلال الأسكتلندية والإيرلندية الشمالية التي ستحاول اغتنام الانفصال عن أوروبا في الدفع باستفتاء السكان على مغادرة التاج البريطاني والبقاء تحت العلم الأوروبي. وفي إنجلترا ذاتها اتضح الانقسام بين مدن كبرى صوتت بقوة لصالح البقاء في أوروبا ومناطق واسعة خارجها حسمت خيارها بالمغادرة. فمن الصعب على المناطق التي تعيش التشبيك والتواصل المفتوح مع أوروبا والعالم ويتعاظم فيها اقتصاد الخدمات العابر للحدود أن تختار إغلاق الأبواب في وجه الشركاء الأوروبيين. اتضح أنّ الانشداد البريطاني نحو أوروبا لا يتخطى العاصمة علاوة على أسكتلندا وبعض المدن. وتبدو الفوارق واضحة بين التجمعات المدينية من جانب والبلدات والأرياف من جانب آخر، ويتضح ذلك في محيط لندن ذاتها، كما يتجلّى في ويلز مثلا بين عاصمتها كارديف والرقعة الواقعة خارجها. وقد عبّر الانقسام التاريخي في إيرلندا الشمالية بين الخلفيات القومية عن اتجاهات التصويت. وفي جبل طارق، ذلك الجزء من بريطانيا الواقع داخل اليابسة الأوروبية، لم يكن هناك تقريبا من صوّت لمغادرة الاتحاد، لأن ذلك سيجلب المتاعب لحياة البريطانيين في تلك المنطقة. وعندما تصوِّت الأقاليم والأرياف للافتراق عن أوروبا فإنها تحتمي بخصوصية محلية تجتاحها العواصف في زمن العولمة، لذلك جاء ردّ فعلها بالانعتاق من المظلة الأوروبية، وهو أيضا ضرب من الانشداد إلى الماضي. لا تتوقف مفارقات اللحظة عند حقيقة أنّ "بريطانيا الملوّنة" تميل إلى أوروبا أكثر من "بريطانيا البيضاء"، بل يكتشف صانع القرار الأوروبي أنّ الديمقراطية التي يعتزّ بها مشروع الوحدة هي التهديد الأكبر له، عندما تنتاب شعوب القارة مشاعر الاستياء من الالتحاق بقاطرتها، خاصة إن شعرت بقدرتها على الاستغناء عن المظلة الجامعة. وإن كان التشبيك الإلكتروني من تعبيرات الانفتاح التقني والتواصل مع الخارج؛ فإنّ شبكات التواصل الاجتماعي كانت ميدانا مهما لحشد المواقف الموالية لمؤيدي مغادرة أوروبا أيضا. لماذا قرروا المغادرة؟ ومن أيّدوا مغادرة الاتحاد الأوروبي وضعوا نصب أعينهم "بريطانيا العظمى"، بينما رفع مؤيدو البقاء في الأسرة الأوروبية شعارات لمقاومة التقوقع، من قبيل "بريطانيا أقوى في الاتحاد الأوروبي". في خلفية المشهد يتذمر البريطانيون من الشعور بإملاءات خارجية تأتيهم من بروكسل. وكان الإحساس بفقدان السيادة مؤرّقا للوعي الجمعي البريطاني الذي يبدي تحسسا هائلاً من التبعية لمظلة خارجية وقرارتها. وقد انتابت البريطانيين صباح الجمعة مشاعر الانعتاق من تلك المظلة رغم أنهم لن يغادروا الاتحاد فعليا إلاّ بعد مسار إجرائي مديد. وهكذا يشعر قطاع واسع من البريطانيين بنشوة استعادة السيطرة على قرارهم الذي رأوا أنّ أوروبا صادرته. إنها روح الاستقلال الغائرة في الذاكرة التاريخية والوعي الجمعي بما لا يحتمل أن يرفرف علم آخر فوق التاج البريطاني. والواقع أنّ بريطانيا تحتفظ بذاكرة حيّة نسبيا من الاستماتة في الدفاع عن سيادتها خلال الحرب العالمية الثانية، وهي تجربة لم تعشها أمة أوروبية أخرى تقريبا. لقد امتدت ذاكرة التصدي للهجمات الألمانية القادمة من أوروبا إلى ثنايا الوعي البريطاني الحاضر، فكيف يمكن التسليم بشعور تقليص السيادة لصالح أوروبيين آخرين يقودهم ألمان مثلاً؟ ثم إنّ بريطانيا التي تحتفظ بتجربة ديمقراطية عريقة وباستغناء عن دستور مكتوب، وتتميز بنموذج تشريعي وقضائي فريد (القانون العام)، وجدت نفسها مع الوحدة إزاء استحقاقات لا تنسجم مع شخصيتها التقليدية، خاصة خلال السعي لوضع دستور لأوروبا، وتثبيت علوية النظام التشريعي الأوروبي في بعض الشؤون على الأنظمة المحلية في الدول الأعضاء. شعر البريطانيون بالاغتراب النسبي في زحام التعدد الثقافي واللغوي الأوروبي، فالإنجليزية التي تسود العالم لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث وعشرين لغة رسمية معتمدة في البيت الأوروبي الموحد. ومن المرجح أنّ التصويت بعث أيضا برسائل اعتراض وتنديد نحو أوروبا التي تم تحميلها أوزارا شتى يتعلق بعضها بتراجع خدمات دولة الرفاه. لقد كان تصويتا للقلق وتعبيرا عن مخاوف كامنة من تحولات جارفة في عالم متغيِّر. وبالنسبة لعموم الجمهور الذي أيّد المغادرة فإنّ تصويته كان تعبيرا عن حنين يلوذ بالماضي من تحولات الحاضر وهواجس المستقبل. لا تغيب عن الأنظار وفرة الملفات التي ضغطت على قرار المقترعين، ومنها موجات اللجوء التي ملأت الشاشات والصحف والشبكات خلال السنة الماضية، وأفواج القادمين من شرق أوروبا ووسطها للاستقرار في بريطانيا مستفيدين من امتيازات المواطنة الأوروبية، حتى تغيّرت مع هؤلاء بعض المظاهر في مدن وأحياء معينة، وأصبحوا رافدا لسوق العمل أو منافسا بمعنى آخر لأيدٍ عاملة محلية، مما أذكى لدى بعض الشرائح شعورا بتهديد الأمان الوظيفي المستقبلي. ستتضرّر فئات محددة من البريطانيين بشكل مباشر من قرار الخروج، ومن هؤلاء طلبة وشباب ينخرطون في برامج التبادل الأوروبية الواسعة، والمستفيدون من أنظمة التأمين الصحي عبر أوروبا، وأيضا المقيمون خارج بريطانيا من قبيل متقاعدين يملكون بيوتا في إسبانيا، أو الذين يديرون تجارات وأعمالاً ومصالح متعددة مع القارة. الثابت أنّ أغلبية البريطانيين تجاهلت تحذيرات أطلقها خبراء ومجموعات مالية واقتصادية من عواقب الخروج من أوروبا الموحدة، وقد عبّر الجنيه الإسترليني عن مصداقية تلك التحذيرات فتهاوى مباشرة بعد النتائج إلى أدنى مستوى له منذ ثلاثة عقود. وإن صوّت البريطانيون ضد مصالحهم الفعلية حقا، فستبقى هذه واحدة من تعبيرات الوعي الزائف في الحياة الديمقراطية. الانفصال وما بعده سيحتاج الانفصال الفعلي عن أوروبا إلى سلسلة عمليات جراحية شاقة، ليس فقط بالنسبة لبريطانيا وإنما أيضا بالنسبة لأوروبا ذاتها، وسيستغرق ذلك زمنا طويلا يصعب الجزم به الآن. ورغم نتيجة استفتاء الخميس، فلا يمكن استبعاد مفاجآت في الشهور والسنوات المقبلة، وقد تجري محاولات للدفع باستفتاء ثانٍ خاصة إن تبيّنت للشعب مع الوقت الأثمان الفادحة للاقتراع، وإن بدا هذا الخيار مستبعدا. ورغم التصويت بالمغادرة فلا يغيب عن الأذهان أنّ بريطانيا لم تكن منضوية تماما في مظلة أوروبا، ليس فقط بفعل واقع الانفصال الجغرافي عنها، بل أساسا عبر رفض الانضمام إلى اتفاقية شنغن لحرية مرور الأشخاص والسلع عبر الحدود، أو الوحدة النقدية الأوروبية "يورو"، علاوة على اتجاه استقلالي نسبيا في بعض ملفات السياسة الخارجية. لقد احتفظت بريطانيا بخصوصيتها حتى ضمن المظلة الأوروبية، ولن يعني قرار المغادرة قطع وشائج الصلة جميعا مع القارة، فستبقى قائمة في الجانب العسكري مثلاً عبر حلف شمال الأطلسي، وسيتم البحث عن معادلة طلاق حكيمة تحتفظ بشراكات واسعة بعد التخلي عن العضوية. بصفة ملموسة سيقلص الخروج من أوروبا معدلات الهجرة إلى بريطانيا، وسيمنح صانعي القرار البريطاني فرص التملّص من التزامات التوزيع الأوروبي لطالبي اللجوء بعد سقوط شعارات تقاسم الأعباء بشكل عادل. ورغم ما سيتسبب فيه القرار من تراجع مكانة الاتحاد الأوروبي دوليا، فإنه لن يؤثر على الشؤون الخارجية البريطانية أو الأوروبية كثيرا؛ ففي أوروبا أساسا علاقات خارجية لا سياسة خارجية موحدة، وفي المقابل سيفرض هذا المنعطف الحاد تغييرات سريعة في البرامج السياسية الداخلية في بريطانيا ذاتها وفي دول أوروبية أخرى أيضا. من هواجس المرحلة أنّ المنعطف التاريخي الذي أفاقت عليه أوروبا صباح الجمعة يتصدره اليوم أقصى اليمين، الذي يفرض الأولويات والخيارات بشكل مباشر أو غير مباشر. ولم يفوِّت قادة أقصى اليمين القومي ممثلاً بحزب استقلال المملكة المتحدة "يوكيب" الفرصة، فبرزوا في هيئة المنتصرين بعد ليلة الفرز الطويل، وأطلقوا صيحات النصر. إنهم يسعون الآن إلى قطف ثمار الاقتراع بحملة إملاءات سياسية، وأعلنوا أنّ الثالث والعشرين من يونيو/ حزيران 2016 هو "يوم استقلال" بالنسبة لبلادهم. ولا ريب أنّ اقتراع البريطانيين سيجد أصداءه لدى أحزاب وحركات ومبادرات تنشط في كل الدول الأعضاء وتحشد قواها للخروج من الاتحاد. فهل تكون هذه محطة عابرة أم بداية المسيرة الجنائزية لحلم الوحدة الأوروبي؟

المصدر: الجزيرة

 المركز الفلسطيني للإعلام 




- انشر الخبر -