الإلمام باليسير من أسرار آيات الصيام د. يونس الأسطل


تم النشر 19 يونيه 2016


عدد المشاهدات: 2043

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


 }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {

البقرة (183)

شهد العام الثاني للهجرة تشريع عدد من الفرائض، وخاصة الأركان؛ كإيجاب الصوم والزكاة، ولا يماري عاقل في حاجة البشر إلى الصوم أفرادًا وشعوبًا؛ لما ينطوي عليه من المنافع، ما علمنا منها وما لم نعلم, فالله يعلم مَنْ خلق, وهو يعلم وأنتم لا تعلمون.

لذلك فقد فرض علينا الصيام, وجعله آكدَ من معظم الفرائض, إذْ رفعه إلى مقام الأركان من البنيان, ثم كان الندب إلى الإكثار منه في مناسبات أسبوعية وشهرية وسنوية, لمن أراد أن يَذَّكَّرَ, أو أراد شكورًا؛ بل جعله بديلًا عن الإطعام في أكثر الكفارات, أو أحد بدائلها في بعضها؛ كقوله تعالى في كفارة الترخص في بعض محظورات الإحرام؛ كالحلق لمن كان به أذىً من رأسه ".. فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ .." البقرة (196).

هذا وقد أنزل في صيام رمضان خمس آيات من سورة البقرة, تتصدرها الآية التي في جبين المقال, وفيها ينادي الله عباده بأحبِّ نُعُوتهم, فقد حبَّبَ إليكم الإيمان, وزيَّنه في قلوبكم, وهو الذي يَمُنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين, ويخبرهم أنه كُتب عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلهم, فهو فريضة عامة في رسالات الله كلها, والمعروف أن التكليف إذا عَمَّ هان, ونظرًا لوطأة الصوم على النفوس فقد ذكر الفعل بصيغة المجهول؛ كالحال في إيجاب القصاص, والوصية, والقتال, وغيرها, حتى لا نجد في أنفسنا حرجًا قِبَلَ ربنا الرحمن تبارك وتعالى.

وقد طوى مقصد هذا الركن في رجاء حصول التقوى على الإطلاق, وهو يشتمل كثيرًا من شرور الدنيا ومفاسدها, كما يتناول اتقاء اليوم العبوس القمطرير؛ فإنه يوم عسير, يجعل الولدان شِيبًا, وهو يوم ثقيل تتقلب فيه القلوب والأبصار, إلا مَنْ يأتي آمنًا يوم القيامة, فلا يحزنهم الفزع الأكبر, ولا يسمعون حسيسها, وهم في الغرفات آمنون.

إن الصوم انتصار على النفس الأمارة بالسوء, وهزيمة للشيطان الذي يُزَيِّنُ لأحدكم سوء عمله, فيراه حسنًا, وعلى الدنيا الغرورة بزخرفها وزينتها, وإن الله لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم, ثم إن الصوم يورث أهله أخلاقًا وصمودًا, حتى لا يهزمهم الظمأ والنَّصَبُ والمخمصة, إذا نفروا خفافًا وثقالًا, أو قاتلوا الذين يقاتلونهم, أو يَلُونهم من الكفار, أو قطعوا الأودية, ووطئوا موطئًا يغيظ الكفار.

ثم جعله أيامًا معدودات, والمعدود قليل, وفيه من تهوين الصيام على النفوس ما فيه, ثم رخَّص للمرض ومن كان على سفر أن يفطر وأن يقضي أيامًا بِعِدَّةِ ما أفطر زيادةً في التخفيف, ولم يكن الصوم في أول الأمر عزيمة, فقد كان الذين يطيقونه مُخَيَّرين بين الصوم وإطعام مسكين عن كل يوم بما يشبعه, ومن أراد أن يتطوع بإطعام اثنين أو ثلاثة فهو خير له, لكن المسلم إذا صام كان خيرًا له من الإطعام, ولا يعقلها إلا العالِمون.

ثم جاء في الآية الثالثة فَبَيَّنَ أن المراد بالأيام المعدودات شهر رمضان, وأن اختيار هذا الشهر للصوم دون غيره لابتداء نزول القرآن فيه, وهو بيان للارتباط الوثيق بين الصيام والقرآن؛ ذلك أن ما فيه من بَيِّنات الهدى والفرقان لا تُنال غالبًا إلا بنوعٍ من التدبر, ولاشكَّ أن خُلُوَّ المعدة أعون على تفهم الآيات؛ إِذِ البِطنة تذهب الفطنة, وتُقعد الجوارح عن القيام, ومن المسلَّمات أن ناشئة الليل هي أشدُّ تواطؤًا بين القلب واللسان, وأقوم قِيلًا وتلاوة.

فالقرآن نعمة كبرى؛ لأنه هدىً للناس على الإجمال بإخراجهم من الظلمات إلى النور, وعلى التفصيل بما فيه من بينات الهدى والفرقان, إذْ إنه نُورٌ تمشون به في الناس.

لذلك فقد نسخ التخيير, وأوجب على مَنْ شهد الشهر أن يصومه, ولئلا يتوهم أحد أن الرخصة في الفطر مع المشقة قد نسخت كذلك, فقد عاد وأكَّدها في حق المريض والمسافر؛ بحيث إذا أفطروا لزمهم قضاء عِدَّةٍ من أيام أُخَر.

ثم بين أن هذه الرخصةً تندرج في إرادة الله اليُسْرَ بعباده دون العسر, وأنه حين أوجب القضاء إنما أراد أن يكملوا العدة, فلا يفوتهم شيءٌ من الثواب, وإنهم بهذا يُكَبِّرون الله بطاعته؛ شكرًا لنعمة الهداية, ولعلهم بذلك يشكرون نعمة القرآن, إذْ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم, فأصبحتم بنعمته إخوانًا, كما أن في الصيام شكرًا لنعمة الصحة والعافية, ولكثير من أَنْعُمِ الله المنهمرة التي إن تعدوها لا تحصوها.

بعد ذلك تجيء آية الدعاء مؤكدة أن الله تبارك وتعالى قريب من عباده, فهو أقرب إليهم من حبل الوريد, فلا يحتاج إلى واسطة تقربهم إلى الله زُلْفى, كما لا حاجة بنا إلى رفع الصوت بالدعاء, فقد وسع كل شيءٍ علمًا, وهو السميع العليم, وإن الرشد الحقيقي إنما هو في الاستجابة لله, والإيمان به الذي يجعلنا جديرين بأن يستجاب لهم, ولعل السرَّ في علاقة الدعاء بالصوم أن الصائم مستجاب الدعوة حتى يفطر, وبالأخص حين يفطر.

ثم كانت الآية الأخيرة التي رخصت في الرَّفَثِ والإفضاء إلى النساء, كما الأكل والشرب ليلة الصيام حتى يطلع الفجر, بأن يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر, والمقصود خيط الظلام الدامس, وخيط النور المستطير في الأفق, ذلك أن الملابسة والاختلاط بين الزوجين تجعل من الصعب الفطام عن الشهوة طيلة الشهر, فإن بعضكم عندئذٍ يختانون أنفسهم بالمواقعة بعد النوم, وقد كان ممنوعًا على من نام بعد الغروب إذا استيقظ أن يتناول المفطرات؛ زيادةً في الشبه بيننا وبين إخواننا الذين سبقونا بالإيمان والصيام, فقد تاب الله عليهم, وعفا عنهم, فرخَّص في المباشرة, ناصحًا أن يبتغوا بقضاء الوطر ما كتب الله لهم من الأجر بالإعفاف, ومن الولد الصالح كذلك.

على أن هذه الرخصة لا تتناول المعتكفين في المساجد؛ إذْ هو انقطاع عن الدنيا يتنافى مع الرفث وتغشية الأزواج.

وقد ختم الآية بالإشارة إلى أن ما ذكر من الأحكام هو حدود الله, وإياكم أن تقربوها, فضلًا عن أن تعتدوها, وفيه إيماء إلى الإمساك عن المفطرات قبل الفجر الصادق بفترة؛ حتى لا نقترب من حدود الله؛ فإن من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

وكانت الجملة الأخيرة مشيرة أن ما ورد من بيان واضح للأحكام في هذه الآيات مثال لبيان الله آياتِهِ للناس, لعلهم يتقون, ويكون بهذا قد كَرَّرَ نفس الحكمة التي جعلها مقصدًا لكتابة الصيام عليكم, كما كتب على الذين من قبلكم في صدر الآيات.

إن الصوم فطام عن أسباب الشقاء من فجر البشرية, فهذا آدم يهبط من الجنة؛ لأكله من الشجرة المحظورة, وذلك ولده قابيل يقتل أخاه هابيل؛ ليفوز بنكاح شقيقته الوضيئة, فأصبح من الخاسرين.

أما بنو إسرائيل فقد كانت أول فتنتهم في النساء، وكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، كما لم يكونوا يتورعون عن أكل أموال الناس بالباطل، ويأخذون الربا وقد نُهُوا عنه، وقد احتالوا على محارم الله، فاعتدوا في السبت؛ إذ لم يطيقوا أن يُحْرَموا من وجبة السمك، كما لم يصبروا من قبل على طعام واحد، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكان من آثارها أن باؤوا بغضبٍ على غضب، وضربت عليهم الذلة أينما ثُقِفوا، ولعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم، فجعل منهم القردة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت، وكُبْكِبوا من الاصطفاء على العالمين ليكونوا شَرَّ الدوابِّ عند الله.

والعياذ بالله تعالى، وتقبل الله منا ومنكم الطاعات.

 

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم

 




- انشر الخبر -