الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله ،،،
أما بعد :
فإن الصوم قد تفرد من بين فرائض الإسلام و أركانه بأنه العبادة الوحيدة التي خلصت لله تعالى, فلم يتقرب المشركون يومًا لآلهتهم المزعومة بالصيام, كما أنه سِرُّ بين العبد و ربه, إِذِ الله وحده هو الأعلم بالصائم من المفطر, و بمن صام إيمانًا و احتسابًا, يحذر الآخرة, و يرجو رحمة ربه, من الذين إذا دنا رمضان كأنما يساقون إلى الموت و هم ينظرون.
و قد جعل الحكمة من وجوبه علينا كما كُتِبَ على الذين من قبلكم حصول التقوى, و هي مشتقة من الوقاية, و لم تقيد في الآية بنوع بعينه؛ لتظل مطلقة في كل ما يتقى من الشرور في الدنيا و الآخرة.
هذا و قد اختير شهر رمضان حاضنًا لهذه الطاعة لكونه أنزل فيه القرآن هدىً للناس بإخراجهم من الظلمات إلى النور, كما كان بيناتٍ من الهدى و الفرقان, أي تبيانًا لكلِّ شيءٍ؛ ليكون المؤمن على نورٍ من ربه, و ليكون نورًا لنا نمشي به في الناس.
و لا بد من التنبيه على أن الأمة المجاهدة لا بد لها من الصوم فرضًا و نفلًا, فالجهاد كثيرًا ما يوقع في الظمأ و النصب و المخمصة, و بخاصة إذا طال الغياب, أو تمكن العدو من حصارنا, و قطع شريان الإمداد, و مالم نكن قد تدربنا من قبل على احتمال الجوع و العطش,فإننا سرعان ما نستسلم لو ابتلينا بنقص الأموال و الأنفس و الثمرات,أو بشيءٍ من الخوف و الجوع, و قد ظهرت معجرة الإسلام و الصيام في صمودنا الأسطوري أمام كل أشكال الحصار الذي ضربته حول أعناقنا أطراف دولية و عربية و محلية, لكننا انتصرنا و نحن في عامنا الثالث, فلم يستطيعوا تركيعنا, و إن كانوا لم ييأسوا بعد, و في جعبتهم بقية من سهام, يلعبون بها في الوقت الضائع, لكن جنوح الصهاينة إلى التهدئة , و اضطرار حكومة مصر إلى استضافة الحوار, و الانفراج الامني مع الكيان الأردني, و التغلب على محاولات التخريب بالمربع الأمني حينًاو و بالإضرابات المسيسة حينًا آخر, كل أولئك يطمئن إلى أن انكسار الحصار على بعد أمتار بل أشبار بمشيئة الله تعالى.
و لما كان هذا المقال ذا طابع فقهي فإن هذا القدر من المقدمة فيه الكفاية, و أتوجه إلى ما استيسر من فقه الصيام:
أولًا : تعريف الصوم:
- هو لغة الإمساك مطلقًا, و لو عن الكلام, كما كان صيام مريم العذراء رضي الله عنها عندما أتت بسيدنا عيسى وليدًا تحمله, فقالوا : يا مريم لقد جئتِ شيئًا فَرِّيا.
- أما في الفقه فهو الإمساك بنية التعبد عن المفطرات من طعام و شراب و وقاع, و سائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
و قد فُرِضَ في شعبان من العام الثاني للهجرة, و هو نفس السنة التي أُذِنَ فيها للذين يُقَاتَلون بأنهم ظُلِموا, و أُمِروا أن يقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونهم و لا يعتدوا؛ إن الله لا يحب المعتدين.
ثانيا : شروط وجوب الصوم و أدائه:
- قام الإجماع على وجوب الصوم لمن شهد منكم الشهر, و أن شروط و جوبه لا تختلف عن شروط التكليف من العقل و البلوغ, مع الإسلام.
- و أما الأداء فواجب على جميع المكلفين إلا الأَقَلِّين الذين رَخَّصَ لهم ربهم في الفطر بشرط عِدّةٍ من أيام أُخَر, مالم يكن من الذين يطيقونه بصعوبة بالغة, فعليهم إذا أفطروا طعام مسكينٍ واحدٍ عن اليوم الواحد,و أصحاب الرخصة هم المرضى, و المسافرون, و المرأة التي ابتليت بأذى الحيض و النفاس, و يلحق بهم الحامل و المرضع التي تخاف على نفسها من الصوم, أو على جنينها.
ثالثًا : أركان الصوم و سننه:
- اتفق الفقهاء على أن الركن الأعظم في الصوم هو الإمساك عن المفطرات من أكل أو شرب أو جماع, و كل ما يصل إلى الجوف من المنافذ الطبيعية ما لم يكن عن نسيان, و كذلك ما يخرج من الإنسان متعمدًا من القيء و الاستمناء, و لو بإدامة النظر أو الفكر أو الملامسة.
و قد اختلفوا في النية بين أن تكون ركنًا أو شرط صحة, و أن تقع قبل الفجر, و لو من أول الليل, أو حتى من أول الشهر, و هي تتحقق بالإمساك عند سماع الأذان و لو لم يتلفظ بشيء, فالنية يتحقق بالقلب, و يشترط أن يظل جازمًا بها طيلة النهار, فلو نوى الإفطار أفطر و لو لم يتناول شيئًا , و يلزمه قضاء ذلك اليوم.
- و أما سنن الصوم فأشهرها ما يلي:
- السحور و تأخيره, فإن في السحور بركة.
- الفطر و تعجيله, فلا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطور, و أخروا السحور.
- أن يكون الفطر على رطبات أو تمرات أو على شيءٍ حُلْوٍ, مع الماء, وهو أهمها, و الجمع بين الأمرين خير؛ لتوفر حاجة الجسم من الماء المنشط للعصارات الهاضمة, و الطاقة الحرارية الضرورية لعملية الهضم,ثم يصلي المغرب, و يعود إلى مائدته مراعيًا عدم الامتلاء؛ حتى يطيق قيام الليل و التراويح.
- و يستحب الدعاء عند الإفطار؛ فإنه مقبول بفضل الله و مشيئته, و خاصة المأثورة منه؛ كقولنا: ذهب الظمأ, و ابتلَّت العروق, و ثبت الأجرإن شاء الله تعالى, و كذلك: الحمد لله الذي أعاننا فصمنا, و رزقنا فأفطرنا من غير حولٍ منا و لا قوة, و كذلك سؤال الله القبول , و غير ذلك.
- و هناك طائفة أخرى؛ كالإكثار من الصدقات و الباقيات الصالحات و الأذكار و غيرها من الطاعات, و المهم هو الاجتهاد اغتنامًا لنشاط النفس, و إقبالها على الطاعة.
رابعًا : مكروهات الصوم و مفسداته :
- أما المكروهات فأشهرها؛ القُبْلةُ و مثيرات الشهوة من النظر و الفكر و اللمس و نحوها, و كذلك المبالغة في المضمضة و الاستنشاق, أو حتى فِعْلُها لغير حاجة أو وضوء, و منها الحجامة و نحوها؛ لما في إخراج الدم من احتمال الضعف عن مجالدة الصيام.
- و أما المفسدات فضابطها كل ما أخلَّ بشرط من الشروط, أو ركن من الأركان, كالحيض و النفاس, و الردة أو قطع النية, و كذلك دخول شيء إلى جوف الصائم من المنافذ الطبيعية الكبرى, و لو لم يكن مغذيًا, و يستثنى من ذلك ما يصعب التحرز منه, كغبار الطريق و الذباب و الحصى الصغير, و الإكراه على الإفطار, أو إدخال الماء أو الغذاء إلى جوفه قهرًا.
و لا شك أن أشنع المفسدات على الإطلاق هو الرفث إلى النساء عمدًا من غير إكراه, يليه تناول الطعام و الشراب بغير عذر مبيح.
و تحسن الإشارة هنا إلى أن الصوم الحقيقي هو صوم الجوارح عن محارم الله كلها, فما كان الصوم لمطلق الحرمان من مباحات الأفواه و الأبضاع, إنما كان لاجتناب الزور قولًا و عملًا, و هذا يشمل كل الحدود التي نهينا عن قربانها.
خامسًا : مباحات الصيام و ما لا يفسده:
- يجوز استعمال السواك و نحوه, دون أن يخرجه من فمه و هو مبلول بالريق, ثم يرده, و بشرط ألا يصل شيء إلى الجوف لو استعمل المعجون أو الصابون, و لا حرج في الاغتسال تبردًا, أو السفر سياحة, أو التطيب و الكحل, أو التداوي في العضل و نحوه, مالم يكن من المنافذ الطبيعية.
- و لا يفسد الصوم بالاحتلام بالنهار , أو الإصباح جنبًا, أو تناول المفطرات نسيانًا, أو غلبة القيء, مالم يرجع منه شيء إلى الجوف بعد وصوله إلى تجويف الفم.
سادسًا : ما يوجب القضاء و الكفارة, أو القضاء وحده:
- رتب الفقهاء على الإفطار أمورًا منها: القضاء وحده, أو القضاء و الكفارة, أو الفدية, مع وجوب الإمساك بقية النهار, و قطع التتابع فيما يشترط فيه التوالي من الكفارات و النذور, و كذلك العقوبة التأديبية المناسبة.
أما القضاء و الكفارة فيجبان بالإجماع في الجماع؛ لورود النص في ذلك في حديث الصحيحين من رواية أبي هريرة أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم يقول: هلكت يا رسول الله, و فسَّر ذلك بالوقوع على زوجه في رمضان, فسأله عليه الصلاة و السلام عما إذا كان يستطيع أن يعتق عبدًا, أو يصوم ستين يومًا متتابعات, أو يطعم ستين مسكينًا, سواء كان ذلك على البدلية أو التخيير بين الثلاثة, فدلَّ على و جوب الكفارة, مع قضاء اليوم الذي أفطره.
و لا بد من شَِّد الانتباه إلى أن ما يفوت من ثواب اليوم الواحد لا يقدر المفطر عمدًا على تداركه و لو صام الدهر كله.
و قد أوجب الحنفية و المالكية الكفارة في تعمد الأكل و الشرب قياسًا على قضاء الوطر, بجامع إفساد الصوم بما تُنَازِعُ إليه النفس, فقد خلق الإنسان ضعيفًا أمام شهوتي المعدة و القُبُل.
و قد تشدد المالكية فأوجبوا الكفارة بانتفاء النية أو قطعها, كمن أصبح ناويًا الإفطار, و لو لم يفطر, أو أصبح صائمًا ثم عزم و جزم بقطع صومه, مهما كانت فترة النية يسيرة.
- و أما القضاء و حده فيلزم بكل ما أفسد الصوم, سواء كان برخصة؛ كالسفر, و المرض, أو بغير رخصة؛ كالاستمناء, و ما أفضى إلى الانزال.
و لا بد من القضاء في أثناء الحول قبل حلول رمضان القادم, ما لم يوجدما يمنع من ذلك كاستمرار المرض, أو الإرضاع الذي يصعب معه الصيام, فمن أخَّر القضاء إلى الأعوام القادمة وجبت عليه الفدية مع القضاء,و هي إطعام مسكينٍ واحدٍ عن كل يوم لم يقضِهِ قبل رمضان.
و لا يصح صيام النافلة قبل قضاء الفريضة, أو النذر, فليبدأ بالقضاء أولًا, ثم ليتنفل ما يشاء.
و في الختام :
فإن في هذه العبادة من تفاصيل الأحكام ما يضيق عنه المقام, و حسبي أن أشرت إلى أمهات المسائل التي عليها عماد هذه العبادة أداءً واستدراكًا, فإن أصبت فالفضل لله وحده, و إن أخطأت فمن قِصَرِ باعي, و تسويل الشيطان, و أستغفر الله من قبلُ و من بعد.
و تقبلوا تهانيَّ الحارة بقدوم الشهر بالخير و النصر إن شاء المولى تبارك و تعالى, و تقبل الله صيامنا و قيامنا, و أعاننا على ذكره و شكره و حسن عبادته.