مرت في شهر مايو/أيار الأخير ذكرى مرور خمس سنوات على توقيع اتفاقية المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، وبمشاركة باقي الفصائل الفلسطينية، بعد ثلاث سنوات من النقاشات الممهدة له.
ولكن السؤال الملح لماذا يستغرق مشروع المصالحة هذا الوقت الطويل دون أن يجد طريقه للتنفيذ رغم الحاجة الملحة إليه وتعثر المشروع الوطني الفلسطيني بسببه؟
مرجعيات وأولويات متباينة
من الناحية العملية، نحن أمام شريكين متشاكسين اضطرا للدخول في المصالحة في ظل اختلافات حادة بينهما.. هناك عدد من الأسباب والمعوقات التي تتسبّب في تعطيل المصالحة، وهي تتباين في درجات تأثيرها وأهميتها، غير أنها تتلخص فيما يلي:
1- المرجعية الفكرية والأيديولوجية: لا توجد مرجعية فكرية وأيديولوجية واحدة مشتركة تحدد ما هو ثابت وما هو خطوط حمراء لا تقبل التنازل والمساومة، وما هو خاضع للتقدير السياسي والظروف الذاتية والموضوعية وموازين القوى. فمثلا، ترفض التيارات الإسلامية -أساسا لأسباب دينية- الاعتراف بـ”إسرائيل“ أو التنازل عن أي جزء من فلسطين، بينما تربط تيارات أخرى الأمر بالاعتبارات الواقعية وبالمصلحة والتكتيك والعمل المرحلي.
وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى أمرا يمكن التعايش معه، غير أن التجربة العملية في الحالة الفلسطينية أثبت وجود عقبات حقيقية لا يستهان بها. فحماس -وعلى أسس إسلامية مبدئية- ترفض الاعتراف بـ”إسرائيل“ وحقها في 77% من أرض فلسطين، بينما تتقبلها قيادة منظمة التحرير والسلطة وفتح، باعتبار ذلك استحقاقا سياسيا نتيجة اتفاق أوسلو الذي تشكلت على أساسه السلطة الفلسطينية، وانبنى عليه حلم تحويل السلطة إلى دولة فلسطينية.
أما حماس فتريد أن تمارس حقها في خدمة شعبها وإدارة السلطة، دون أن تعترف بإسرائيل، ودون أن تتخلى عن المقاومة، ودون أن تعترف بالاتفاقيات التي وقعتها المنظمة؛ أي أن حماس تريد أن تفرض شروطا جديدة لإدارة اللعبة، وهو ما يرفضه الإسرائيليون والأميركيون.
ومن الناحية التطبيقية يطالب محمود عباس ومعه قيادة المنظمة وفتح بتشكيل حكومة ترفع الحصار؛ غير أن إسرائيل وأميركا ترفضان رفع الحصار دون الاستجابة لشروط الرباعية الدولية التي وُضعت بعد فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني سنة 2006، والتي كان على رأسها شرط الاعتراف بإسرائيل، وهو ما لا يمكن لحماس القبول به.
2- تحديد الأولويات والمسارات: وقد انعكست النقطة السابقة على البرنامج الوطني لكلا الطرفين، وكيفية تحديد الأولويات، وما يمكن تقديمه من تنازلات، ورؤية الطرفين الإستراتيجية والتكتيكية لمشروعي المقاومة والتسوية، وأيهما يأخذ الأولوية.
وبرزت تساؤلات من قبيل ما إذا ما كانت الأولوية يجب أن تُعطى لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإجراء الانتخابات، أم لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيلها، أم لإصلاح الأجهزة الأمنية، أم للبرامج الاقتصادية، أم لرفع الحصار وإعادة الإعمار، أم لتحقيق الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، أم لقضية اللاجئين، أم لمواجهة برامج التهويد، خصوصا في القدس. وكيف يمكن تحديد الوزن النوعي لكل قضية، وعلى أي أساس يتم تقديم أو تأخير أي من هذه القضايا، وما هي القضايا التي يمكن الانشغال بها في وقت واحد؟
3. عدم وجود مرجعية مؤسسية يحتكم إليها الطرفان، وتُحدّد أولويات المشروع الوطني، وآليات اتخاذ القرار، وتمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وآليات التداول السلمي للسلطة.
ومع أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الجهة التي عليها القيام بهذا الدور، إلا أن حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي وشرائح فلسطينية واسعة ليست أعضاء في المنظمة، بينما تحتكر حركة فتح قيادة المنظمة منذ أكثر من47 عاما (فبراير/شباط 1969)؛ وبالتالي، لم تعد المنظمة تعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني، وليس هناك الآن بيت سياسي فلسطيني واحد يجمع كل الفلسطينيين، يتدارسون فيه أوضاعهم، ويضعون فيه برنامجهم الوطني والسياسي، ويحددون من خلاله أولوياتهم وبرامجهم.
تعطلت دوائر منظمة التحرير ومؤسساتها وفقدت فعاليتها، وتضاءلت أو اندثرت مع ”تغوّل“ السلطة الفلسطينية عليها. ولم يعقد المجلس الوطني الفلسطيني جلسة حقيقية منذ سنة 1991، إلا اجتماعا واحدا سنة 1996 -على ما فيه من ثغرات- تم فيه تعطيل أو إلغاء معظم بنود الميثاق الوطني بما يتوافق مع استحقاقات اتفاقية أوسلو؛ أي أن هذا المجلس لم يقم طوال 25 عاما بمهامه الحقيقية، وكان فقط رهن ”الاستدعاء“ لتمرير رغبات قيادة المنظمة؛ بما في ذلك تغيير الهوية الأصلية لمنظمة التحرير والمهام الأساسية التي نشأت من أجلها.
ورغم أن اتفاق المصالحة ينص على إصلاح منظمة التحرير ومشاركة كافة الفصائل الفلسطينية فيها، فإن السلوك السياسي والعملي لقيادة المنظمة كان عادة ما يُعطل الاستحقاقات المرتبطة بإصلاح المنظمة وإعادة بناء مؤسساتها. كما أن السلوك السياسي لحماس والجهاد الإسلامي وعدد من الفصائل، لا يسعى فقط للشراكة في قيادة المنظمة، وإنما في إعادة بناء أولويات المشروع الوطني الفلسطيني على أسس ترفض التنازل عن الأرض وتحمي خيار المقاومة، وهو ما يعني إعادة النظر في الاتفاقات التي وقعتها المنظمة وربما إلغاء أو تعديل عدد منها، وهو ما قد يكون محط اعتراض شديد من قيادة فتح التي قد تسعى لقطع الطريق على تغييرات كهذه.
الأدوار الخارجية
4- التأثير العربي: لا يخفى دور مصر وسوريا والأردن والسعودية على صانع القرار الفلسطيني، وتلعب مصر عادة دورا أساسيا في إعطاء الغطاء للقيادة الفلسطينية، وفي ترتيبات البيت الفلسطيني، وكانت سابقا وراء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وتعيين الشقيري رئيسا لها، كما أعطت الغطاء لإزاحته وحلول فتح في قيادة المنظمة، واستمرار هيمنتها عليها، فضلا عن الغطاء الذي وفرته لمسار التسوية السلمية لقيادة المنظمة.
كما كانت مسؤولة (قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011) إلى حد كبير عن شكل التعامل مع حماس، ومحاولة عزلها وإضعافها وإفشالها. وفي المقابل فإن سوريا (قبل الأحداث التي تشهدها حاليا)، شكلت حاضنة لحماس وقوى المقاومة، وكان لذلك تأثيره في مواجهة ما يسمى بمحور الاعتدال.
وتتحمل الدول العربية، وخصوصا دول الطوق، مسؤولية تاريخية في تعميق أزمة المشروع الوطني الفلسطيني بسبب تضييقها أو منعها للعمل المقاوم، وللنشاط السياسي والشعبي الفلسطيني، وعدم قدرة الشعب الفلسطيني على تنظيم نفسه بحرية في تلك الدول، وتعطيل عقد الانتخابات أو المجالس الوطنية الفلسطينية، وعدم السماح بذلك أو بعضه إلا بأثمان سياسية باهظة.
5- التأثير الإسرائيلي: من الناحية الإسرائيلية، فإن دخول منظمة التحرير (ومن ثمّ السلطة الفلسطينية) في ”عصر أوسلو“ وما نتج عنه من ترتيبات على الأرض منذ 1993، جعل الجانب الإسرائيلي هو ”الحاضر الغائب“ في كثير من الأحيان في صناعة القرار لدى قيادة المنظمة وقيادة السلطة؛ إذ إن اتفاقية أوسلو أدت إلى انتقال قيادات ”المقاومة“ للإقامة تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وألزمت المنظمة بعدم اللجوء إلى المقاومة المسلحة، وبإقامة سلطة وطنية يتحكم الإسرائيليون بمدخلاتها ومخرجاتها، وبوارداتها وصادراتها، وتحويل أموالها وانتقال أفرادها وقياداتها.
وتستطيع إسرائيل تدمير البنى التحتية، واحتلال مناطق الحكم الذاتي، واعتقال من تشاء، وخنق الاقتصاد، والاستمرار في التهويد، وفرض العقوبات التي تريد، كوسائل ضغط وابتزاز وتركيع سياسي واقتصادي وأمني. كما تستطيع تعطيل الانتخابات التشريعية، واعتقال مؤيدي تيار المقاومة مثل وزراء حماس ونوابها في المجلس التشريعي، مما يؤدي إلى تعطيل آليات عمل السلطة الفلسطينية.
وقد منح ذلك الإسرائيليين فرصا واسعة لاستخدام أدوات ضغط هائلة على القيادة الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني، بحيث أصبح السلوك الإسرائيلي المحتمل، محددا أساسيا في نقاشات ومفاوضات المصالحة الفلسطينية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
6- التأثير الدولي: وبالتأكيد، فإن الموقف الغربي وخصوصا الأميركي له تأثيره الذي لا يستهان به على المسار الفلسطيني، إذ إن الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل وتوفير الغطاء الدائم لاحتلالها وانتهاكاتها وممارساتها ضدّ الشعب الفلسطيني، وكذلك التدخل لفرض شروط الرباعية على حماس وقوى المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل ووقف المقاومة المسلحة، والاعتراف بالاتفاقيات التي وقعتها المنظمة، بما فيها اتفاقيات أوسلو، شكل تدخلا سافرا في محاولة تحديد مسارات وخيارات الشعب الفلسطيني ومواقفه. كما سعت أميركا وحلفاؤها لإسقاط حماس وعزلها، واعتبارها حركة ”إرهابية“، ونزع الشرعية عنها، بالإضافة إلى معاقبة الشعب الفلسطيني على اختياره الديمقراطي الحر لحماس.
من جهة أخرى، أسهم السلوك الأميركي المتحيّز في إفشال مسار التسوية السلمية، وفي انسداد أية آفاق لتحصيل الحقوق الفلسطينية أو بعضها من خلال مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، وأسهم في إدخال المشروع السلمي الذي تحمله القيادة الفلسطينية الحالية في أزمة حقيقية.
وكان جزء أساسي من نقاشات المصالحة الفلسطينية منصبا على طريقة تكييف تشكيل الحكومة الفلسطينية مع شروط الرباعية ومع ”الفيتوات“ الأميركية والإسرائيلية المحتملة، وهو ما ينطبق أيضا على إجراء الانتخابات وعلى إصلاح الأجهزة الأمنية وغيرها.
أبعاد نفسية وثقافية
7- أزمة الثقة بين فتح وحماس، أو بين تيار المقاومة وتيار التسوية، التي تعمقت بين الطرفين في السنوات الماضية، زادت من تعقيد الأمور. فقد تكرست من خلال العلاقات الفصائلية وخصوصا بين فتح وحماس، وطوال ربع قرن، أزمة كبيرة في الثقة. فمن لغة الاتهام القاسية بين الطرفين بالفشل والعمالة، إلى حملات المطاردة الأمنية والاعتقالات والإقصاء التي قامت بها السلطة بقيادة فتح خلال الفترة 1994-2000، في مقابل عمليات المقاومة التي كانت تقوم بها حماس وفصائل المقاومة، والتي كانت ترى فيها فتح تعطيلا وإفشالا لمسار التسوية المؤدي لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية؛ إلى محاولات الإفشال والإسقاط والتعطيل ونزع الصلاحيات التي قامت بها قيادة السلطة (فتح) في مواجهة المجلس التشريعي الذي فازت حماس بأغلبيته الساحقة، وفي مواجهة الحكومة التي شكلتها حماس، إلى حالة الانقسام التي نتجت عن سيطرة حماس على قطاع غزة وسيطرة فتح على الضفة الغربية، إلى الإجراءات الأمنية المتبادلة التي قام بها الطرفان لضمان سيطرتهما، مع بلوغ التنسيق الأمني بين السلطة في رام الله وبين الطرف الإسرائيلي والأميركي حدودا قصوى في السعي لاجتثاث العمل المقاوم، وتفكيك البنية التنظيمية لتيار ”الإسلام السياسي“ في الضفة.
كما كان للفلتان الأمني وسيل الدماء بين الطرفين أثره في تعزيز انعدام الثقة بين الطرفين.
8- البعد الثقافي الحضاري: وهو مرتبط بحالة التخلف وبأمراض المجتمع الفلسطيني، خصوصا تلك المتعلقة بفن إدارة الاختلاف وبالتداول السلمي للسلطة، وبفن التعايش والالتقاء على القواسم المشتركة، والبعد عن الأنانية الفردية والحزبية، ونزعات السيطرة والاستئثار، وتغليب الشك وسوء الظن والمكايدة السياسية على برامج بناء الثقة والعمل المشترك.
9- أزمة القيادة الفلسطينية: باعتبارها قيادة لم ترتقِ إلى مستوى تطلعات شعبها، والتي وقعت بدرجات متفاوتة في مسالك الإدارة الديكتاتورية الفردية، والحسابات الشخصية، وإضعاف العمل المؤسسي التنفيذي، وعدم احترام السلطات التشريعية، والسلوك الزبائني الأبوي، والمكايدات الحزبية الرخيصة، والانتهازية السياسية، والفساد المالي، وعدم القدرة على توظيف الطاقات الهائلة والأدمغة المذخورة في الشعب الفلسطيني، والفشل في إدارة الاختلاف السياسي.. وغيرها.
10- التشتّت والتشرذم الجغرافي للشعب الفلسطيني: وهو تشتت أسهم في تعقيد القدرة على الاجتماع والتفاهم وصناعة القرار، إذ لا يجتمع الفلسطينيون في مكان واحد، ولا يحكمهم نظام سياسي واحد. وتختلف ظروفهم من وجود نحو مليونين و900 ألف في الضفة الغربية تحت الاحتلال وتحت قيادة فتح، ووجود نحو مليون و850 ألف في قطاع غزة تحت الحصار الإسرائيلي وتحت قيادة حماس، ووجود نحو ستة ملايين و 150 ألفا موزعين على دول العالم. ورغم تطلع الشعب الفلسطيني كله إلى تحرير فلسطين وتحقيق حلمه في العودة والاستقلال، فإن بيئات الحياة وظروف الحكم المختلفة أثرت في ثقافة الفلسطينيين وطريقة تناولهم وفهمهم للأمور.
وهكذا، فربما تعين معرفة هذه المعوقات على إدراك أسباب حالة التأخير والتعطل في إنفاذ المصالحة، غير أنه عندما تتوفر الإرادة الحقيقية والجدية اللازمة سيتم إحداث اختراق حقيقي، شرط ألا يقتصر الأمر على ”الآليات“ ، وإنما يتم معالجة ”الأولويات“ والمسارات.
المصدر: الجزيرة.نت