خاص دنيا الوطن – ميسون كحيل
في الفصل الثاني من كتاب عرفات حياته كما أرادها والذي أطلق عليه الكاتب " عبد الناصر وعرفات زمن المقاومة " تناول احمد عبدالرحمن الكاتب الشاهد حقيقة موقف الرئيس عبدالناصر من ياسر عرفات وقبل لقائهما التاريخي عام 1968 فبعد هزيمة 1967 شعر الرئيس عبدالناصر بفراغ كبير أجبره على إعادة بناء الجيش المصري ومصمما على أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة وفي عملية توافق غير مباشرة مع ياسرعرفات الذي أعلن أن المقاومة ليست ورقة في جيب أحد ليكمل ويملأ ياسرعرفات الفراغ الذي كان يشعر به عبد الناصر بعد انتصار المقاومة الفلسطينية في معركة الكرامة الانتصار الذي كان من الاهمية لعبد الناصر أكثر من غيره بعد هزيمة 1967 . تسعة أشهر فصلت بين هزيمة حزيران وانتصار المقاومة الفلسطينية في معركة الكرام عام 1968 كانت كفيلة أن تعيد الكرامة بالكرامة وبشهادة موسومة بالدم وبصدارةالشعب الفلسطيني مسرح الشرق الأوسط فبعد أن كانت القضية الفلسطينية قضية لاجئين أصبحت قضية الشعب الفلسطيني ... ويكشف الكاتب بحرفية غامضة لتسليم الأمانة – أمانة المقاومة بعد رحيل عبد الناصر بعد أن توطدت العلاقة بعد ذلك بين العظماء الناصر والياسر ونظرتهما للمقاومة في زمن المقاومة لتفتح الأبواب المغلقة أمام ياسر عرفات . الأبواب التي سعى عرفات أن تبقى مفتوحة من خلال علاقاته وقدرته على المناورة السياسية.
ولعل أحد أعمدة فلسطين الثورة ورئيس تحريرها في زمن الثورة الكاتب احمد عبدالرحمن أجاد بذكره القدرة الاستثنائية لعرفات في نسج العلاقات مع الآخرين وكيفية تطويعها خدمة للقضية هو أبلغ رد على من يتهم الرمز بالهروب على " فيسبا " فبعد تأسيسه للقاعدة الارتكازية في بلدة الكرامة في الاردن كان قد وطد علاقته مع الضباط والجنود الاردنيين و قائدهم مشهور حديثة ..حيث وضح الكاتب حقيقة في التاريخ لا بد من ذكرها وكيف ساهم الجنرال مشهور حديثة في عقد اللقاء الأول بين الملك حسين وياسر عرفات بعد معركة الكرامة. ويسرد لنا الكاتب الحقائق التي تحاول اسرائيل وبعض الكتبة ممن يجهلون تاريخ الثورة الفلسطينية تشويه قاعدة " فتح –لاند " او جبهة العرقوب اخطر جبهة ضد اسرئيل حيث تمكن فدائيي قاعدة فتح لاند عام 1970 من أسر أول جندي اسرائيلي وإصرار ياسر عرفات على أن تتم عملية التبادل مقابل إطلاق سراح الأسير الفلسطيني الأول محمود حجازي أسير مقابل أسير وفي صورة تعكس مدى الكبرياء والوطنية والثقة التي أمتاز بهم الياسر من الصفات. وجدير بالقول هنا لأولئك المشككين عليكم بقراءة التاريخ جيدا .
ويتوقف الكاتب في هذا الفصل أمام انتخاب ياسر عرفات رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية وكيف عمل عرفات على تاطير المجتمع الفلسطيني ، في النقابات والاتحادات والجمعيات .. وكيف انتزع ياسر عرفات الاعتراف من الدول العربية بان المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني عام 1974 وذلك قبل الخطاب التاريخي الذي القاه ياسر عرفات في الأمم المتحدة بأسبوعين والذي سيتناول الكاتب ذكره في الفصل الثالث من الكتاب.
دنيا الوطن تنشر حصرياً "عرفات-حياته كما أرادها" للكاتب أحمد عبدالرحمن..الفصل الأول:زمن السلاح(أول لقاء مع الاسرائيليين)
عبد الناصر وعرفات
زمن المقاومة
لا جيوش عربية على جبهات القتال، والقيادة العربية الموحدة التي حظرت نشاطه، مزقت خططها الورقية دبابات دايان في حزيران الهزيمة، إنه فراغ لا سابق له على طول الحدود التي وصلتها القوات الإسرائيلية وتوقفت عندها، لأنها حدود طبيعية، نهر الأردن وقناة السويس ومرتفعات الجولان وجبل الشيخ، أما عبد الناصر الغاضب فإنه منهمك في إعادة بناء القوة المصرية، إنه أعلن تحمله المسؤولية الكاملة عن «النكسة»، وقرر «أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» هذا الموقف من الزعيم العربي يثلج صدر ياسر عرفات، وماذا كان ينتظر غير أن يسمع رئيس مصر وقائد الأمة يعلن تصميمه على الحرب والمقاومة؟ إن مواقف عبد الناصر وتصريحاته كان لها فعل السحر، فإذا الحدود كلها بين كيانات المشرق مفتوحة أمام الفدائيين بعد أشهر قليلة من قتل الفدائيين على الحدود بين الكيانات وفلسطين المحتلة وزج المئات في السجون في عهد وصفي التل 1966 بعد الغارة الإسرائيلية على قرية السموع وقرية حوسان قرب الخليل ، ولكن بعد هزيمة الأنظمة في حزيران وفقط بورقة صغيرة، ورقة إجازة يمكن للفدائي أن يتحرك من الأردن إلى سوريا وإلى لبنان وإلى العراق، وبدأ الشباب الفلسطيني يتدفق من كل حدب وصوب ويسأل أين فتح، وفتح كما أرادها ياسر عرفات ليس فيها طقوس جاهزة للانتماء إليها، أنت فلسطيني وأنت عربي فالأبواب مفتوحة لاستقبالك ما دمت مستعداً للعمل من أجل تحرير فلسطين من الاغتصاب الصهيوني.
كان ياسر عرفات، مفجر هذه الثورة قبل هزيمة حزيران، ينظر لإسرائيل كما نظر الجزائريون للمستعمرين الفرنسيين في الجزائر، والذين بفضل النضال غادروا الجزائر بعد 130 عاماً من احتلالها، ولعل هذه الرؤية سترافق ياسر عرفات طوال حياته، وحتى عندما أصبح الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط وصاحب القرار الأول في الشأن الفلسطيني، إنه الإرث السياسي الثقيل للقضية الفلسطينية، من الحاج أمين الحسيني مروراً بالشقيري وانتهاء بياسر عرفات. ويظل هذا الصراع المأساوي في الوعي الوطني بين الحق التاريخي وبين الواقعية السياسية يحكم الحياة السياسية الفلسطينية في ظل الأوضاع الدولية السائدة، والتي تضغط لمصلحة الواقعية السياسية.
وهكذا كان الوضع في حزيران، عبد الناصر منهمك في إعادة بناء الجيش المصري وياسر عرفات يصنع معجزة المقاومة، هناك مقاومة وهناك مظاهرات في طول الأراضي المحتلة وعرضها، وهناك معسكرات تدريب، وصورة الفدائي الفلسطيني تتصدر الصفحات الأولى في الصحف العربية والعالمية، ويعرف أبو عمار كيف ينشر قضيته العادلة، الجميع بحاجة إليه، بعضهم آمن بطريقه لتحرير فلسطين، وبعضهم أراد المقاومة ورقة توت لتستر عري الأنظمة في لحظة هزيمتها، وحين تستعيد الأنظمة قوتها وعافيتها لا تعود هناك حاجة لورقة التوت هذه، بل يعود المنطق القديم، الذي يحفظ للأنظمة بقاءها ويلغي فلسطين، ولم يكن صدفة أن ياسر عرفات قال في ذلك الوقت، «إن المقاومة الفلسطينية ليست ورقة في جيب كبير أو صغير في هذه المنطقة»، كان ينظر إلى بعيد، كان يخشى المستقبل، يكثر الحديث عن واقع سايكس/بيكو الذي أوجد هذه الكيانات، التي لا تقوى على القيام بعمل قومي على مستوى تحرير فلسطين.
أراد عبد الناصر إشعال الجبهات العربية كلها، يجب إطلاق النار على المحتلين الإسرائيليين، ومن غير ياسر عرفات ورجاله للقيام بهذه المهمة التاريخية؟ وعبد الناصر يعيد بناء جيشه ويرسل المجموعات عبر قناة السويس تضرب الإسرائيليين في سيناء، ويعلن عبد الناصر حرب الاستنزاف ويباشرها، والفريق عبد المنعم رياض يسقط شهيداً وهو يشرف على بناء القوة المصرية في قناة السويس.
ولا يحتاج أبو عمار إلى زمن طويل ليملأ الفراغ في جبهة الأردن وسوريا ولبنان بالرجال والرصاص، كان لديه سلاح كثير وقد جمعه من ساحات القتال في الجولان، أما التدريب في المعسكرات فيكفي لأسبوع واحد ولا بد من التطعيم الميداني، ولم يعد هناك فراغ مادامت هناك بلاغات عسكرية تصدر عن فتح وعن قوات العاصفة. ياسر عرفات يملأ هذا الفراغ، وعبد الناصر يدعمه قبل أن يراه ويعلن حرب الاستنزاف «لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، ويحرك جهازه الإعلامي الضخم لدعم كل مقاومة ضد إسرائيل، وفي وقت لاحق، بعد اللقاء التاريخي بين زعيم الأمة وقائد المقاومة في نيسان 68، قدم عبد الناصر موجة من موجات صوت العرب لياسر عرفات باسم «صوت العاصفة».
ولا يطول الوقت حتى تتعزز المقاومة وتبنى قاعدتها الارتكازية الأولى في بلدة الكرامة في الأردن، تسعة أشهر فقط تفصل بين هزيمة حزيران وصمود المقاومة في معركة الكرامة، دايان قال قبل المعركة «هذه فتح كالبيضة سأكسرها بأصابعي»، إن سر الكرامة الكبير يكمن في الإصرار على المواجهة والقتال بدل الانسحاب والتراجع، وكم كان صعباً على ياسر عرفات منظر الجيوش وهي تنسحب من أرضها تاركة جيش العدو يحتلها دون قتال، ويشيح بوجهه عن قوانين حرب الغوار، ويغلب الرؤية السياسية على القوانين المجردة لحرب العصابات، ويقرر الصمود والمواجهة في وجه الدبابات الإسرائيلية، وتدخل معركة الكرامة التاريخ شهادة مكتوبة بالدم، على عودة الشعب الفلسطيني لاعباً أساسياً على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط، ويظهر ياسر عرفات بالكوفية والعقال والملابس العسكرية والنظارات السميكة ورشاش الكلاشينكوف، فيسلب الألباب وتتجه صوبه الأنظار، ولا يمضي طويل وقت حتى يسبغ عليه جمال عبد الناصر الشرعية العربية ويمده بالسلاح والذخيرة والخبراء والمدربين، فالمقاومة يجب أن تلحق ضربات موجعة بإسرائيل وفي كل مكان من الأراضي المحتلة، هنا لا بد من تسجيل نقطة هامة لصالح ياسر عرفات، وهي تتعلق بقدرته الاستثنائية على إقامة العلاقات مع الآخرين، فبفضل هذه المقدرة سعى حثيثاً للتعرف على ضباط وجنود الوحدات العسكرية الأردنية في الأغوار، وقبل معركة الكرامة كان قد أقام علاقة صداقة قوية مع قائدهم مشهور حديثة، الذي أخذ على عاتقه هذا القرار التاريخي بفتح النار والمدفعية على الأرتال من الدبابات الإسرائيلية الزاحفة نحو بلدة الكرامة، «إن اجتياز النهر والتوغل في الأراضي الأردنية هو اعتداء لا بد من التصدي له بما لدينا من قوة»، هذه عبارة مشهور حديثة بعد زمن طويل من معركة الكرامة، هذا كله جعل قرار تدخل الجيش الأردني أمراً حتميا، إضافة إلى أن كرامة هذا الجيش كانت مجروحة بسبب ملابسات انسحابه من الضفة الغربية في الخامس من حزيران، أما الملك حسين وبصفته القائد الأعلى للجيش فقد أصدر أوامره بالتصدي للعدوان الإسرائيلي.
أما المقاومة الفلسطينية فقد ظهرت أمام الشعوب العربية وأمام العالم، بأنها حركة مقاومة جدية ألحقت بالعدو المتغطرس خسائر حقيقية، إن سبعين قتيلاً إسرائيليا في معركة الكرامة قد غيرت نظرة العالم للشعب الفلسطيني ولحركة المقاومة ولقائدها ياسر عرفات، أما الجماهير العربية المتعطشة لرد الاعتبار للكرامة العربية بعد هزيمة حزيران المرة، فقد أعادت لها معركة الكرامة بعضاً من كرامتها المهدورة أمام التبجح الإسرائيلي الذي عبر عنه دايان بقوله: «حدود إسرائيل اليوم من قناة السويس إلى نهر الأردن ولن نتراجع عنها».
كان عبد الناصر أول الرابحين في معركة الكرامة، وسرعان ما فتح أبواب مصر وقدراتها الهائلة أمام المقاومة الفلسطينية، وأما ياسر عرفات فقد دخل عمان في اليوم الثاني لمعركة الكرامة وأمامه موكب شهداء الكرامة العربية في معركة الكرامة، وأزيلت حواجز الجيش بين الأغوار وعمان، وفي الميدان تعانق الجندي والفدائي، معجزة الكرامة أذابت الجليد وأطاحت بالسدود وبالسياسات الضيقة، وفي المخيمات والمدن تغيرت الأحوال بين ليلة وضحاها، فالكل مقاومة والكل مع المقاومة، أما الجنرال مشهور حديثة فقد رتب اللقاء الأول لياسر عرفات مع الملك حسين، واستمع الملك بإنصات عميق لياسر عرفات وهو يقول: «نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية، ولا مصلحة لنا في ذلك، وما نسعى إليه هو مقاومة الاحتلال الإسرائيلي داخل أرضنا المحتلة»، أعجب الملك حسين بكلمات ياسر عرفات وقال له: «أهلاً وسهلاً بك في الأردن، وأبوابنا مفتوحة أمامكم في كل وقت»، والأردن بلدك فعلى الرحب والسعة.
تدفق آلاف الشباب على الأغوار وبلدة الكرامة يبحثون عن فتح والفدائيين للانخراط في صفوف المقاومة، وانتشرت معسكرات التدريب والقواعد العسكرية من شمال الأردن وحتى جنوبه، وعلى جبهة الجولان السورية، وعبرت مجموعات مقاتلة من فتح الحدود السورية إلى جبال العرقوب المطلة على فلسطين، تلك الجبال التي أطلق عليها العدو الإسرائيلي (فتح-لاند).
وخلال عام واحد تعاظم شأن المقاومة الفلسطينية ودورها، وأصبح من المستحيل بقاء فتح والفصائل الأخرى خارج منظمة التحرير الفلسطينية، فالشقيري استقال من رئاسة المنظمة بعد قمة الخرطوم، ويحيى حمودة ترأس المنظمة بصفة مؤقتة، وهكذا في شباط 1969 دخلت فتح والفصائل منظمة التحرير الفلسطينية وانتخب ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية، إن الشرعية الثورية التي يمثلها ياسر عرفات قد تبوأت الآن مقاعد الشرعية الرسمية التي تعترف بها الدول العربية، ومن هذا الموقع على رأس الشرعية، بدأ ياسر عرفات بإعادة تأطير المجتمع الفلسطيني، في النقابات والاتحادات والجمعيات، وأسر الشهداء والهلال الأحمر والمستشفيات والعيادات الطبية ولجان المخيمات واللجنة المركزية لحركة المقاومة الفلسطينية في الأردن، واللجنة العليا لشؤون الفلسطينيين في لبنان، وإعادة إحياء مكاتب منظمة التحرير في الخارج، وبالنسبة لفتح بدأ يعين المعتمدين في العواصم العربية وكانوا بمثابة موفدين شخصيين له لدى الدول، ينقلون كل صغيرة وكبيرة تهم قضية فلسطين للمسئولين في هذه الدول. وأرسل الموفدين للجاليات الفلسطينية في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، إن الفلسطينيين قد حطموا قيودهم واندفعوا يحتلون مركز الأحداث على مسرح الصراع في الشرق الأوسط، وإن الظاهرة الفلسطينية تفرض حضورها على المستوى الإقليمي والدولي على السواء، وتراجعت «قضية اللاجئين» لتتصدر «قضية الشعب» الأجندة الدولية، شعب فلسطيني يعيد كتابة التاريخ بدمه، وعلى الرغم من قصر زمان الثورة الجميل في ممر الماراثون، إلا أن حصيلته السياسية والعسكرية والإنسانية فتحت أبواب التاريخ أمام الشعب الفلسطيني، وحين استعادت سايكس/بيكو كياناتها من سيطرة المقاومة. وبعد وفاة عبد الناصر كان مستحيلاً عودة الماضي البغيض، عودة الإلغاء والتغييب والطمس والوصاية وقميص عثمان والورقة الرابحة والمساومة. قال ياسر عرفات وهو ينجو ببراعته من خطر محدق ومميت: «إن ثلوج جبل الشيخ أرحم علينا من سايكس/بيكو وكياناتها»، والتحق بجبال العرقوب وهو يردد: «يا سارية الجبل الجبل»، جبال شاهقة لا تصلها قدم السلطة، وكان ياسر عرفات يعرفها، من زمن مدفع الهاون والقذيفة الوحيدة التي أطلقها على إسرائيل، أحبه الناس هناك كما أحبوه في كل أرض وطئتها قدماه، في العرقوب يلبي كل مطلب ولا يعرف أن يقول لا، ودخل النسيج السكاني في المنطقة مرحباً به فقد سبقه مجده في الكرامة، إنه هنا قريب من «البطن الطري لإسرائيل»، إنه في الموقع الأكثر خطورة على إسرائيل، المستوطنات والمصانع ومحطات الكهرباء والمزارع، ويمد بصره قليلاً فإذا البحر جبهة أخرى ضد إسرائيل، ولن تعرف إسرائيل الهدوء بعد الآن، في حين قدرت القيادة الإسرائيلية أن حرمان ياسر عرفات من الجبهة الشرقية والشمالية قد أزاح عن صدرها هذا الكابوس الثقيل، إلا أن الحسابات الإسرائيلية كانت مخطئة تماماً، فقد أصبحت جبهة العرقوب (فتح لاند) أخطر جبهة ضد إسرائيل من حيث الدوريات الفدائية التي تقتحم المستوطنات في الجليل الأعلى، وقد جُنّ جنون جولدا مئير في يوم ذكرى إنطلاقة حركة فتح في 1/1/0791، بقيام الفدائيين بأسر أول جندي إسرائيلي واسمه «صموئيل روزن فايرز » من مستوطنة «المطلة» في الجليل، وبعد خمسة عشر شهراً جرت أول عملية تبادل بين فتح وإسرائيل بوساطة المحامي الفرنسي الشهير جاك فرجيس «محامي الثورة الجزائرية» حيث تمت عملية التبادل في منطقة رأس الناقورة، وأطلقت فتح الجندي الإسرائيلي «صموئيل روزن فايرز» مقابل إطلاق إسرائيل لسراح الأسير الفلسطيني الأول محمود بكر حجازي، وأذكر أن الضابط الفتحاوي «أسد بغداد» قد أخبرني أنه حمل الجندي الإسرائيلي المذكور لمسافات طويلة حتى اجتاز الأرض المحتلة ووصل سالماً مع أفراد الدورية إلى قاعدتهم بأمان في العرقوب «فتح لاند»، أما موقف ياسر عرفات، فقد تميز بالإصرار على أن عملية التبادل مع إسرائيل تجري على النحو التالي: أسير إسرائيلي مقابل أسير فلسطيني، وهذا الموقف يعكس الثقة والكبرياء الوطنية التي ميزت ياسر عرفات طوال تاريخه الحافل بالانجازات الوطنية، وكان الجنون قد أصاب الإسرائيليين بعد أن أصبحت جبال العرقوب(فتح لاند)، بفضل زعامة عبد الناصر الذي برعايته وقع اتفاق القاهرة الشهير في عام 9691 بين ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني، والذي شرّع وجود المقاومة في لبنان، وحق الإشراف الفلسطيني على المخيمات في لبنان، في الحرية اللبنانية ترعرعت القضية الفلسطينية، ففي صيغة لبنان الفريدة مكان مرموق لياسر عرفات، وتفقد إسرائيل عقلها فتهاجمه في قلب بيروت وينجو بمعجزة ويستشهد القادة الثلاثة أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان، ولا يقع الشرخ في لبنان في حينه، بل تزيحه جانباً حرب أكتوبر/تشرين أول 1973، التي كان ينتظرها ياسر عرفات بفارغ الصبر منذ زمن بعيد، وببصيرته النافذة وديناميكيته الهائلة فإنه يحفر في الصخر ويفتح جبهة جديدة ضد إسرائيل ويقول: «مصير الحرب كل حرب، رهن بالبشر أنفسهم، وليس بما يخترعون من عدة الحرب».
مخطئ من يعتقد أنه يمكن لرجل مسكون بقضيته وبدوره التاريخي أن يترك هذه الفرصة السانحة تفلت من يديه، فحساباته السياسية والعسكرية تنبع من قراره المستقل، ومن ربطه المطلق بين قراره وقضيته، وحين انتهت الحرب بإسقاط خط بارليف واقتحام جيش مصر لسيناء، والتقدم في الجولان، ظل يطلق النار ولا يعترف بالهدنة، فمن لم يسمع الصوت الفلسطيني وسط هدير الدبابات والطائرات، عليه الآن أن يفتح عينيه وأذنيه على وقع العمليات العسكرية النوعية التي ينفذها الفدائيون ضد إسرائيل، إنه يفرض نفسه على الأحداث في الشرق الأوسط، ولا يمكن استبعاده، هو يقول: «من كان طرفاً في الحرب فلا بد أن يكون طرفاً في السلام»، وفي قمة الجزائر بعد الحرب مباشرة، قررت القمة تقديم الدعم للأطراف الثلاثة التي خاضت الحرب، مصر وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقررت أن المنظمة هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وهذا لا يرضي أبو عمار، وفي قمة الرباط 1974 أصر على أن المنظمة هي الممثل الشرعي «والوحيد» للشعب الفلسطيني وأنهى بكلمة «الوحيد» إبعاد سياسات الوصاية من أي نظام في الشأن الفلسطيني، إنه الآن يمسك بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل لأنه الرقم الصعب على الأرض.