في حزيران عام ١٩٦٧ أدركت "إسرائيل" أنها لن تستطيع تهجير الفلسطينيين بالطريقة نفسها التي هجّرت من خلالها الشعب الفلسطيني عام ١٩٤٨ لذلك انصبّت كل خططها ومخططاتها في عدة خطوات.
أولاً- الضغط على الشعب الفلسطيني لإقناعه بالهجرة الطوعية، وهذا الضغط كان في عدة صور، منها الاقتصادي والسياسي والقمع العسكري والأمني.
ثانيًا- إقناع بعض دول العالم بتقديم محفزات لهجرة الفلسطيني إليها.
ثالثًا- محاصرة الفلسطينيين في مدنهم وقراهم ومنعهم من التوسع، ومن أهم المشاريع التي تأتي في هذا السياق؛ مشروع يغآل ألون الذي دعا إلى محاصرة الفلسطينيين، وتحويل تجمعاتهم السكنية إلى أحواز ضيقة، ومنعها من التوسع والتمدد.
رابعًا- تكثيف الاستيطان، ومدّ المزيد من الشوارع الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس، والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض.
خامسًا- تهويد المكان، بمعنى إعطاء المكان طابعًا يهوديًّا، وذلك من خلال تغيير الأسماء وسرقة الثقافة وتحويرها لتوائم الثقافة الصهيونية، وإعادة صياغة العمارة حتى تبدو مختلفة عن الثقافة العربية السائدة.
انطلقت المخططات الصهيونية من قناعة مفادها أن الضفة الغربية والقدس جزء من أرض "إسرائيل" لا يمكن التنازل عنه، وأن السكان الفلسطينيين طارئون، فقد ظلّوا بخلاف الرغبة الإسرائيلية، إذ أن "إسرائيل" لم تستطيع طردهم عام ١٩٦٧، فبقي وجودهم في الفكر الصهيوني، مؤقتًا لحين إيجاد حل لهذا الوجود المزعج والثقيل.
وقد ظلّت الحركة الصهيونية تنظرُ إلى الضفة الغربية والقدس كجزء مركزي من عقيدة اليهود، وهذه الرؤية في المشروع الصهيوني ضرورية لوجود "إسرائيل" واستمرارها، فهي التي تجعل "إسرائيل" مركزًا ليهود العالم، وتعزز العلاقة مع الغرب المسيحي، وبالذات المسيحيين الأنغليكانيين في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد وضعت "إسرائيل، العديد من الخطط للتعامل مع الواقع في الضفة الغربية؛ أبرزها مشروع يغآل ألون القائم على محاصرة الفلسطينيين في تجمعاتهم السكنية، ومشروع مناحيم نيلسون للإدارة المدنية للسكان الفلسطينيين، ولكن نتيجة للضغط الغربي، وبالذات بعد حرب الخليج الأولى؛ ذهبت "إسرائيل" إلى مؤتمر مدريد، الذي اعتقد الكثيرون من عرب وفلسطينيين، بانه سيفضي إلى إقامة دولة فلسطينية، ولكن تعثر مفاوضات واشنطن أعاد الأمور إلى المربع الأول ممّا دفع قيادة (م.ت.ف) إلى الدخول في مفاوضات سِرّيّة مباشرة مع الإسرائيليين.
انتهت تلك المفاوضات السِّرية باتفاق أوسلو، والذي عاد وعزز تلك الاعتقادات عن وجود تغيّر استراتيجي عند الإسرائيليين سيؤدّي في النتيجة إلى إقامة الدولة الفلسطينية، ولكن وعند بدء تطبيق اتفاق أوسلو، بدأ يتضح لياسر عرفات بأن التغيير الإستراتيجي ذاك لم يكن إلا وهمًا، وبأن شيئًا لم يتغير في الفكر السياسي الصهيوني، وبان طرح موضوع الدولة لم يكن إلا مراوغة لتثبيت واقع على الأرض.
هنا حاول أبو عمار تحريك الواقع على الأرض مجددًا، بهدف دفع الدول الكبرى للضغط على "إسرائيل" للموافقة على إتمام المرحلة النهائية من اتفاق أوسلو بإقامة الدولة الفلسطينية، وتدرجت أشكال التحريك الفلسطيني، من هبّة النفق، إلى هبّة جبل أبو غنيم، وأخيرًا كانت انتفاضة الأقصى، ولكن كانت قدرة "إسرائيل" على المراوغة وتثبيت الوقائع على الأرض، أقوى من الخطوات الفلسطينية التي انتهجها ياسر عرفات، وهو الأمر الذي أنهى عمليًّا فكرة الدولة الفلسطينية، ولم يعد مشروع التسوية الجاري يتضمنها أو يبشّر بها.
وإذن، يبقى السؤال الجوهري؛ ما هي رؤية "إسرائيل" لمستقبل الضفة الغربية والقدس؟
القدس يجري تهويدها بالكامل (أي جعل طابعها يهوديًّا من خلال إعادة تشكيل العمارة الإسلامية السائدة وتحويلها إلى عمارة يهودية وهي مزيج من العمارة الإسلامية والغربية)، والبلدة القديمة هي المقصود بالقدس هنا، وفيما يتعلق بالسكّان؛ فإن "إسرائيل" تعمل على إعادة هندستهم، من خلال تهجير السكان العرب وإسكان يهود متدينين مكانهم، لإعطاء انطباع بأن المدينة يهودية الطابع، وبالنسبة للمسجد الأقصى فإن تهويده يعني، على الأقل في هذه المرحلة، جعله مكان عبادة يهوديّ.
وبخصوص السكان الفلسطينيين في القدس فقد جرى الضغط عليهم داخل القدس، وحصارهم في الحيز المكاني،في مقابل تخفيف قيود البناء في محيط القدس، كما هو حاصل في بلدة كفر عقب مثلاً، وذلك بهدف نقل الكثافة السكانية العربية من القدس إلى محيطها، وقد أصبح الآن عدد سكان كفر عقب حوالي 80 ألفًا، وأغلبهم جرى تهجيرهم من مدينة القدس (تهجيرًا يتخذ الطابع الطوعي وإن كان ناجمًا عن سياسات التضييق والحصار تلك).
وأخيرًا؛ بالنسبة للضفة الغربية فإن "إسرائيل" نفّذت مخططاتها في عزل التجمعات السكانية العربية داخل جدران إسمنتية، وسيجري في المرحلة القادمة استكمال هذه الجدران، وبالذات في المناطق الشرقية للضفة الغربية، وبخصوص السكان فإن "إسرائيل" تعمل الآن على تفعيل مشروع مناحيم نلسون للإدارة الذاتية للسكان مع بعض التطوير بحكم وجود السلطة الفلسطينية، وهناك حاجة إسرائيلية للاستفادة من بنيتها الإدارية والأمنية، ولكن "إسرائيل" ستسعى حين إتمام مشروعها إلى إجهاض الكيان السياسي للفلسطينيين، لتحويل البنى الإدارية الفلسطينية إلى محض إدارات محليّة خدمية تفتقر إلى المطالبة السياسية.