يقولون في علم الاتصال والتواصل أن الاتصال الشخصي (الفردي) من أفضل الأساليب والأدوات في عملية الاتصال؛ كونها تكون بشكل مباشر وجها لوجه وفيها ردة الفعل المباشرة والتي يمكن لرجل الاتصال أن يعدل في خطابه ولغته ومنطلقاته بشكل فوري وسريع.
وفي الدعوة؛ يؤكدون أن أول بدايات الدعوة هي دعوة فردية منذ لحظة تكليف الأنبياء بالرسالات يكون التكليف فردي، ومن ثم تتحول الدعوة بعد الإقناع والتواصل لتصبح جماعية، وفيما بعد عندما يتحرك الدعاة يتحركون بشكل فردي، فالدعوة هي فن من فنون الاتصال البشري، وكما أن الاتصال الفردي هو أنجع وسائل الاتصال فإن الدعوة الفردية هي بدايات كل الدعوات وتبقى عنصرًا مهمًّا في نشر الدعوة والتواصل مع أفراد المجتمع لتوسيع القاعدة البشرية المنتمية إليها.
واليوم نحن نعيش على سبيل المثال في الضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة عملا عسكريا مقاوما يعتمد على الفردية سواء في المرحلة الأولى لانتفاضة القدس والتي انطلقت بسكين ودهس ومولوتوف وعبوة (كوع) وحجر وغير ذلك، وفي المرحلة الثانية تغيرت أدوات المواجهة والتي دشن أولها الشهيد عبد الحميد أبو سرور هي أيضا فردية رغم أهمية التنظيم.
القضية اليوم بحاجة إلى عملية توازن حساسة ومحسوبة بذكاء من تنظيمات المقاومة؛ فعملية القدس الاستشهادية أربكت حسابات العدو الصهيوني وألجمت أجهزة أمن السلطة، وأجهزة الاحتلال الأمنية وقفت عاجزة أمام هذه العملية وباتت في حيرة من أمرها، هل هي عملية فردية أو عملية منظمة يقف خلفها تنظيم فلسطيني مقاوم؟ ، رغم أن حركة حماس تبنت الشهيد أبو سرور كأحد أبنائها؛ ولكنه لم تتبنَ العملية، وهناك فرق بين تبني الشهيد وتبني العملية، وهو أمر يربك الاحتلال وأجهزته الأمنية التي فرضت سرية على مجريات التحقيق رغم أن بعض التعليقات من قيادات أمنية صهيونية تميل بشكل كبير إلى أن العمل فردي من بدايته حتى نهايته، وهذا أمر خطير أكثر من كونه عملا منظمًا، لأن الحسابات في العمل الفردي تختلف كثيرا عن العمل المنظم كون الفرد وحده من يتحمل تبعات العمل سواء كان الاستشهاد أو الإصابة ثم الاعتقال، ولا يترتب على التنظيم تلك التبعات التي تترتب على فردية العمل.
نعم وجود التنظيم مهم حيث يشكل حاضنة قوية للعمل المقاوم، ولكن في وضعنا الحالي في الضفة والقدس الأمر يتحاج إلى حسابات دقيقة من أي تنظيم، وخاصة الاستشهادية، لأن الانتقام من الاحتلال سيكون مباشرًا وكبيرًا لو أعلن أي تنظيم مسئوليته والنتائج المترتبة على ذلك لن تكون سهلة وبسيطة، العمل المنظم بات مهمًّا وضروريًّا؛ ولكن شريطة أن لا يظهر التنظيم بشكل مباشر خلف أي عملية عسكرية مقاومة.
والانتفاضة تدخل شهرها السابع بنفس النمطية التي بدأت بها دون تطوير لأدواتها، شيء طال أكثر من اللازم فكانت عملية أبو سرور لتنقل الانتفاضة لمرحلتها الثانية بعد أن ظن الاحتلال وأعوانه أنهم على وشك إنهاء الانتفاضة، وبدت على وجوه الجميع الفرحة والتفاخر، وما هي إلا أيام قلائل فصلت بين مرحلتين كانت العملية الاستشهادية التي أربكت حسابات العدو، وخلطت الأوراق، وبات الحديث عن مرحلة الكارثة حتى بات الخوف والقلق سمة بارزة في حياة الاحتلال في كل المستويات حتى سجل متلقّو البلاغات من الجمهور الصهيوني خمسة وعشرين ألف بلاغ خلال اليوم الماضي والذي سبق كتابة المقال؛ أي بمعدل يزيد عن ألف مكالمة في الساعة الواحدة.
أجهزة الاحتلال المختلفة تلتزم الصمت خلال التحقيقات حول العملية الاستشهادية وإن رجحت بعض الأوساط أن تكون بنفس الطابع الذي جرت به كل الأحداث خلال الانتفاضة وهي طابع الفردية، وهذه مسألة ليست صعبة، وهي منطقية؛ كون التطورات في وسائل الاتصال جعلت الصناعات العسكرية الخفيفة في متناول الجميع، ولكن هذا لا يمنع من وجود تنظيمات المقاومة في انتفاضة القدس، وعليها أن تتعامل مع الوضع بحنكة ومهارة عالية بعيدا عن التبني ونسب العمل إلى هذه الجهة أو تلك، سياسة معتمدة ويجب أن تبقى كذلك حتى الوصول للمرحلة الثالثة من انتفاضة القدس، وعندها يكون هناك مستجدات قد تغير قواعد اللعبة مع الاحتلال.