إذا أردتَ أن ترى مظهرًا من مظاهر الأخوّة الإسلامية فاحضر دفنَ جنازة؛ لترى جموعَ الناس تُقْبلُ من داخلِ البلد وخارجها؛ لتشارك المُصَابَ في مصيبته، وبعضُهم قد لا يَمتُّ إلى المصاب بِصِلةِ قرابةٍ أو جوارٍ أو صحبةِ عمل.
في المقبرة ترى عظمةَ هذا الدين في صيانةِ التوحيد وحمايته من كل ما يكدّره أو يكون سبباً في خدش صفائه، في صورٍ متنوعة: كمنع الصلاة عند القبور، أو الصلاة إليها، أو الذبح عندها، ومَنْعِ رفْعِ القبور إلى مستوى بارزٍ عن بقية الأقبُر، كما في حديث عليّ رضي الله عنه ـ في وصيته صلى الله عليه وسلم له ـ: "ولا قبراً مشرفا إلا سوّيته"([1]).
وترى صورةً من صور تكريم المسلم بعد وفاته؛ بدءًا من تغسيله وتكفينه، ومرورًا بطريقةِ دفنه ومنعِ الحيّ من الجلوس على القبر؛ فحرمة المسلم ميّتا كحرمته حيّا.
ولا أظن مَن يحضر هذه الشعيرةَ مشاركاً في الصلاة واتباع الجنازة، إلا ويلفت نظره بعضُ الملاحظات والأخطاء التي تصدر من بعض الناس، لا عن عمد ـ إن شاء الله ـ وإنما غالبها عن غفلة، أو جهلٍ بالحكم، يحملهم على ذلك حبُّ الخير، لذا أحببتُ التنبيه على بعض الأخطاء التي تقع من بعض الناس؛ لعله يُسهم في تقليلها وتجنّبها، فمن ذلك:
· مزاحمة أهلِ الميت وذويه على القبر، ويَكثر هذا من بعض الصغار ـ أصلحهم الله ـ والأَوْلى أن يُنَبّه الكبار، ويُعَلمَ الصغار على احترام هذا الحق، ويتأكد إذا كان الميت امرأةً.
· التزاحم الشديد عند الدفن، وظنُّ بعضهم أن أجر اتباع الجنازة مرتهن بالمشاركة في حثو التراب، وهذا وهْم، وهو يسبب إرباكاً للمشتغلين بالدفن كما هو معلوم.
والثابت في السنة الصحيحة أن أجر القيراطين معلّق بأمرين: الصلاة عليها، ثم تشييعها، وليس فيه المشاركة في الدفن، وربما تعلّق بعضُهم بحديثٍ ورد في هذا الباب، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم([2]).
· الإصرار على معانقة أهل الميت، وهذا قد يُحتمل فيمن قدِم من سفر، أو لم يرَهمْ منذ زمن، لكن ما الحاجة لذلك من قِبَل جيرانه، أو مَن شاهدهم قبل موت الميت بساعات أو وقت قريب؟ كلُّ من عانى الوقوف للعزاء، وتعزية المئات يُدرِك العنَتَ الذي يَلحق المُعَزّين بمثل هذا العناق الذي لا حاجة له.
· المقبرةُ أحدُ مواضع الاعتبار، والتفكر في المصير المحتوم، وهو أحد المواضع التي كان السلف ـ رحمة الله عليهم ـ يؤثِرون فيها الصمتَ إلا لحاجة، ومع هذا فإن بعضَ الناس ـ وهو مشتغل بدفن الميت ـ يرتفعُ صوته دون حاجة، مع أن جميع الاحتياجات المتعلقة بدفنه قريبة، يمكن الوصول إليها بالإشارة أو بصوتٍ منخفض.
وأسوأُ من ذلك أن تَرى بعضَ الناس يتحدث فيها بحديث الدنيا، أو يقهقه ويضحك، بل قد سمعتُ شبابا يتحدثون في الرياضة والناس منشغلون بالدفن!
وحدثني مَن أثق به أنه سمع من يتحدث بالجوال على شفير القبر في قضايا البيع والشراء! أفي هذا المكان؟!
ومنهم من يكدّر صفوَ التأملِ والسكون بأصواتِ نغماتِ جوّاله المزعِجَة، وبعضُها موسيقي محضة!
وإنني أتساءل: إذا لم يكن وقتُ التشييع فرصةً للتأمل والتفكر، والبعد عن ملذات الدنيا الملهية؛ فمتى نعتبر ونتذكر؟
وقد قال بعضُهم: أصبحتُ لا أجدُ ما كنتُ أجِدُه قديمًا في أوقاتِ تشييع الجنائز.. فلقد كان حضورُ دفنِ ميتٍ واحد كفيلا بإيقاظنا من غفلتنا عدّة أيام، وتنشيطنا للطاعة بِضع ليالٍ، وأما هذه الأيام فصرنا نشهد عدّة جنائز في صلاة واحدة، ولا نكاد نجد أثراً، فصار الإنسانُ يحتاج إلى زيارةٍ مقصودة ـ بدون تشييع ـ يخصّ بها المقابر، لعل القلبَ يَلين، والنفسَ تتذكر، ويذهبُ عن العينِ قحطُها وجمودها، وتتذكر الآخرة. فاللهم رحمةً من عندك، تُصلح بها قلوبَنا، وترزقنا الاعتبار، وتُحسِن بها منقلبنا إليك، وتنوّر بها على أهل القبور قبورَهم.