داءُ الغِشّ!!!


تم النشر 17 إبريل 2016


عدد المشاهدات: 1715


داءُ الغِشّ!!!


الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ قلَّة الخوف من علاَّم الغيوب من أسباب ارتكاب المعاصي والذنوب،يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"الخوف علامة صحة الإيمان، وترحُّله من القلب علامة ترحُّل الإيمان منه".مدارج السالكين(1/515)
لأنه بقدر وجود الخوف في قلوب الأنام أيها الأحبة الكرام يكون تعظيمهم للعزيز العلام، يقول المناوي-رحمه الله-:"القلب إذا امتلأ من الخوف –أي من الله-أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي،وبقدر قلة الخوف يكون الهجوم على المعاصي، فإذا قلَّ الخوف جدا واستولت الغفلة كان ذلك من علامة الشقاء".فيض القدير(2/ 132)
وإنَّ من المظاهر السيئة والأفعال الذميمة التي نراها –وللأسف- قد انتشرت وفشت اليوم بين كثير من المسلمين بسبب قلة الخوف من رب العالمين: "الغِشّ"، يقول المناوي – رحمه الله- :" الغِشُّ ما يُخلَطُ من الرديء بالجيد ". التعاريف ( ص 538)
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" و الغِشُّ: خديعة وخيانة وضياع للأمانة وفقد للثقة بين الناس , وكل كسب من الغِشّ فإنه كسب خبيث حرام لا يزيد صاحبَه إلا بعدا من الله". مجموع الفتاوى (20/255)
حتى إنَّ بعض من يرتكب هذا العمل المشين! قد لبَّس عليهم إبليس اللعين وجعلهم يعتقدون أن هذا الفعل من الذكاء الذي يتميزون به عن الآخرين! يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" لكن انظر إلى الناس اليوم تجد إن الغِشَّ عندهم أهون الأشياء، بل إن بعضهم_ والعياذ بالله_ يَعد الغِشّ من الشطارة في البيع والشراء والعقود، ويري إن هذا من باب الحذق والذكاء والدهاء نسأل الله العافية ". شرح رياض الصالحين (1/495)
فغفلوا بسبب ذلك من تحذير نبينا الكريم من هذا الفعل الذميم و العمل اللئيم، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :"َمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ". رواه مسلم (101)
يقول القاضي عياض – رحمه الله- :"أي ليس مهتديا بهدينا، ولا مستنًّا بسنتنا لا أنه أخرجه من المؤمنين ".مشارق الأنوار (1/383)
ويقول الإمام ابن الأثير-رحمه الله-:"وقوله(فَلَيْسَ مِنَّا) أي ليس من أخلاقنا ولا على سنتنا".النهاية في غريب الأثر(3/ 369)
وأن العلماء قد أجمعوا على تحريمه وذمه ، يقول الصنعاني – رحمه الله- :" وهو – الغِشّ - مجمع على تحريمه شرعا مذموم فاعله عقلا ".سبل السلام ( 3 / 29)
وأنه كذلك من الكبائر، يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله-:" الغِشُّ من كبائر الذنوب ". مجموع الفتاوى (20/255)
إنَّ الغشّ لم يعد قاصرا اليوم على صنف مُعين من المسلمين! فنراه موجودا بكثرة عند بعض التجار! الذين همهم الوحيد هو تحصيل المال بأيِّ وسيلة كانت!،يقول الهيتمي- رحمه الله- : "وكثيرا من التُّجَّارِ وَأَهْلِ الْبَهَارِ وَالْحَبَّابِينَ وغيرهم يجعل أعلى البضاعة حَسَنًا وَأَسْفَلَهَا قَبِيحًا، أو يَخْلِطُ بعض القبيح في الحسن حتى يُرَوَّجَ وَيَنْدَمِجَ على المشتري فيأخذ القبيح من غير أن يشعر به ولو شعر به لم يأخذ شيئا منه، وغير ذلك من صور الْغِشّ ". الزواجر عن اقتراف الكبائر ( ص 397)
فيكفي هؤلاء! جُرما أنهم قد وقعوا في ذنب عواقبه وخيمة وأضراره جسيمة ألا وهو الكذب!يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-: " الكذب متضمن لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيام العالم عليه لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمن لفساد المعاش والمعاد، ومفاسد الكذب اللازمة له معلومة عند خاصة الناس وعامتهم، كيف وهو منشأ كل شر، وفساد الأعضاء لسان كذوب، وكم أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستلبت به من نعم، وتقطعت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغرست به عداوات، وقطعت به مودات، وافتقر به غني، وذلَّ به عزيز، وهتكت به مصونة، ورميت به محصنة،وخلت به دور وقصور،وعمرت به قبور،وأزيل به أنس،واستجلبت به وحشة، وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدواً مبيناً،ورد الغني العزيز مسكيناً،وهل ملئت الجحيم إلا بأهل الكذب الكاذبين على الله، وعلى رسوله، وعلى دينه،وعلى أوليائه،المكذبين بالحق حمية وعصبية جاهلية".مفتاح دار السعادة ( 2/74)
فلو عظموا ربَّ البريَّة وتدبروا النصوص الشرعيَّة لما تجرؤوا على ارتكاب هذه المعصية الدنيَّة،يقول الهيتمي-رحمه الله- : "ولو تأمل الْغَشَّاشُ الخائن الآكل أموال الناس بالباطل ما جاء في إثم ذلك في القرآن و السنة لربما انزجر عن ذلك أو عن بعضه". الزواجر عن اقتراف الكبائر ( ص 400)
وليعلم هذا التاجر الذي يخدع ويغِشُّ الأنام أنَّ ماله حرام وأنه مُتَوعدٌ بعقاب شديد إن لم يتب ويرجع إلى العزيز العلام و ويُطَّهر نفسه من هذه الآثام،فعن جابر- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ".رواه الدارمي في سننه (2776) ، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله - في صحيح الجامع (4519)
يقول الإمام المناوي – رحمه الله- :"هذا وعيد شديد يفيد أن أكل أموال الناس بالباطل من الكبائر ".".فيض القدير ( 5 / 17)
فعلى تجار المسلمين أن يحرصوا في عملهم على تقوى رب العالمين ويبتعدوا عن كل فعل مشين!لأن هذا من أسباب نجاحهم و فلاحهم في الدارين بإذن أرحم الراحمين،يقول الهيتمي-رحمه الله-:"على من أراد رضا الله ورسوله وسلامة دينه ودنياه ومروءته وعرضه وأُخراه أن يتحرى لدينه،وأن لا يبيع شيئا من تلك البيوع المبنية على الغشّ و الخديعة". الزواجر عن اقتراف الكبائر ( ص 399)
وللأسف أيها الأحبة الأخيار لم يعد ارتكاب هذا الفعل قاصرا على الكبار بل تعداهم إلى الصغار! فنرى منهم من يغِشُّ في الامتحانات ظنًّا منهم أن هذا هو طريق النجاح ومسلك الفلاح! بل أصبح بعضهم يبتكر طرقا عصرية للقيام بهذه المعصيِّة الرديَّة!ويعظم حُزن المؤمن عندما يسمع أن بعض الأبناء قد يفعلون ذلك بمباركة الآباء!أو بمساعدة بعض الأساتذة!! يقول الشيخ ابن باز– رحمه الله- :" الغِشُّ مُحرَمٌ في الاختبارات،كما أنه محرم في المعاملات، فليس لأحد أن يغش في الاختبارات في أي مادة، وإذا رضي الأستاذ بذلك فهو شريكه في الإثم والخيانة، والله المستعان". مجموع فتاوى ابن باز (6/397)
فعلى كل من ولاَّه ربَّ العالمين أمر المسلمين- سواء كانت ولايته عامة أو خاصة- أن يحذر أشد الحذر من مباركته أو وقوعه في هذا العمل المشين! لأنه متوعَّدٌ بالعقاب الشديد يوم وقوفه بين العزيز الحميد، فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما من عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ الله رَعِيَّةً يَمُوتُ يوم يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلا حَرَّمَ الله عليه الْجَنَّةَ" . رواه مسلم ( 142)
يقول القاضي عياض –رحمه الله- :" معناه بَيِّنٌ في التحذير من غش المسلمين لمن قلده الله تعالى شيئا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قلده، إما بتضييعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به، وإما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها لكل متصد لإدخال داخلة فيها أو تحريف لمعانيها، أو إهمال حدودهم، أو تضييع حقوقهم، أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم فقد غشهم". الشرح على صحيح مسلم (2/166)
وعلينا كذلك جميعا أن نَحذر من الوقوع في هذا العمل المشين ونحذر كذلك منه الآخرين، ونذكرهم بعواقبه الوخيمة وأخطاره الجسيمة التي لا تضر فقط الأفراد بل تتعدى إلى الجماعات ، يقول الهيتمي – رحمه الله- : "وكثرة ذلك –أي الغِشّ- تدل على فساد الزمان وقُرب الساعة، وفساد الأموال والمعاملات، ونزع البركات من المتاجر والبِيَاعات وَالزِّراعات،بل ومن الأراضي المزروعات". الزواجر عن اقتراف الكبائر ( ص 400)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا ممن يحرص على فعل الطاعات والتزود من الخيرات وأن يحفظ المسلمين من الوقوع في المحرمات كالغِشّ و الخيانة و سائر المنكرات فهو سبحانه وليُّ ذلك وهو رب الأرض والسموات.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين




- انشر الخبر -