ما دمنا نعيش ذكرى "يوم الأرض" الخالد، وحالة الاشتباك الانتفاضي الميداني المستمر للشهر السادس على التوالي، وواقع ما يتعرض له صناعها من إعدامات ميدانية تجاوزت كل حدود المعقول، إن كان على يد جيش الاحتلال، أو على يد سوائب مستوطنيه، فلنقل، بإيجاز وتكثيف شديديْن، شيئاً عن الصهيونية، لعله يُذكِّر بحقيقة، كثيراً ما تُنسى، هي:
أن "تُقدس" مجموعة بشرية عرْقِها، يعني، تلقائياً، أنها "تُشيطن" أعراق كل أو بعض "أغيارها"، وفي هذا ما يكفي لولادة الحركات والدول العنصرية بصورها كافة، بما فيها أبشعها العنصرية الفاشية القائمة على تجريد أتباع بعض "الأغيار" من إنسانيتهم، تمهيداً لإباحة قتلهم، وتجريم كل من ينتقد سفك دمائهم، ويناهض ما يتلوه، ويترتب عليه، (تقدم الأمر أو تأخر)، من جرائم، وفظاعات، الإبادة الجماعية الممنهجة، والتطهير العرقي المُخطط.
وإذا كان هذا هو السبيل لارتقاء العنصرية إلى الفاشية، فلنسأل: أليس تحصيل حاصل أن تكون إسرائيل "دولة فاشية"، ارتباطاً بكونها وليد حركة عنصرية استعمارية استيطانية إقصائية إحلالية، أنكرت وجود الفلسطينيين و"شيطنت" كل العرب، و"قدست" عرق أتباع الديانة اليهودية واستخدمتهم، لإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، بما يحولها إلى "يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية، وهولندا هولندية"؟!!
وبالتالي، أين الغرابة في أن يرتكب جيش "إسرائيل" ومستوطنوها جرائم الإعدامات الميدانية، وفظاعات حرق العائلات والفتية والأطفال الرضع أحياء، وإطلاق الرصاص على رأس الجرحى؟!! وأين الغرابة، أيضاً، في أن يفلت مرتكبو هذه الجرائم والفظاعات من العقاب، وفي أن تصفهم بالأبطال أغلبية ساحقة من يهود "إسرائيل"، كما تشير نتائج استطلاعات رأيهم، وما يُنشر على صفحات تواصلهم الاجتماعي؟!! بلى، لا عجب في كل ما تقدم.
فالجرائم التي ترتكب "الآن وهنا"، هي مجرد امتداد لما ارتكبته، على مدار نحو قرنٍ من الزمان، عصابات الحركة الصهيونية، ثم وارثها جيش "إسرائيل"، بحق الفلسطينيين، خصوصاً، والعرب عموماً، من مجازر، ومذابح، واغتيالات ممأسسة، وإعدامات ميدانية للجرحى والمعتقلين، وعمليات احتجاز لجثث الشهداء والتمثيل بها، وهدم بيوت عائلاتهم، وجرائم حرب موصوفة، يصعب حصرها؟!!
لكن، لئن كانت قيادة "إسرائيل" تتساوى، في كل ما تقدم، مع مثيلاتها من قيادات الحركات والدول العنصرية الفاشية التي عرفها التاريخ الحديث والمعاصر، فإن مشكلتها أكبر، ليس فقط لأنها تنكر الطبيعة الفاشية لعنصرية دولتها وجيشها؛ إنما أيضاً لأنها تتمسك بكذبة أن إسرائيل "دولة يهودية ديمقراطية"، (بل، و"واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة")، وبكذبة أن جيشها هو"الجيش الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم قاطبة".
وأكثر، فقيادة "إسرائيل" تعتبر أن مشكلتها مع الفلسطينيين "لا تتمثل في أنهم يأتون لقتل مواطنيها اليهود فقط؛ بل أيضاً في أنهم يجبرون جيشها على قتل من يأتي لقتلهم"، وفق ما صاغت الأمر غولدا مائير، في زمانها. هنا نعثر على نقطة من بحر خطاب الأحزاب الصهيونية للدفاع عن، وتبييض صفحة، ما ارتكبه جيش "إسرائيل"، ولا يزال، بحق الفلسطينيين، وغيرهم من العرب، من جرائم متصلة ويصعب حصرها. إنه الخطاب الصهيوني المتهالك الذي يتناسى حقيقة أن "دفاع" جيش إسرائيل، هو تماماً كدفاع شخص سيطر بالقوة على بيت ويرفض إخلاءه، أو حتى إخلاء أيٍّ من غرفه، ويطلب من صاحب هذا البيت أن يتخلى عن مطلبه العادل، وأن يكف عن حقه المشروع في المقاومة الدفاعية، لأجل استرجاعه.
ولا عجب؛ فخطاب الأحزاب الصهيونية كافة، على اختلاف أسمائها، وائتلافات حكوماتها، قام منذ البدء، ولا يزال، على اعتبار أن حرب 48 كانت مجرد حرب دفاعية عن وجود "دولة اليهود" الناشئة، وعلى اعتبار أن حرب 67 كانت مجرد حرب دفاعية استباقية لتلافي هجوم عربي وشيك لإبادة هذه الدولة، وعلى إنكار أية مسؤولية لجيش "إسرائيل" عما وقع للفلسطينيين من تشريد ولجوء في العام 48، وعما وقع لهم من نزوح قسري في العام 67. هنا ثمة إنكار لحقيقتين؛ أولاهما أن تأسيس "إسرائيل" عام 48 تم بعملية تطهير عرقي بشعة، وثانيتهما أن توسعها عام 67 تم بعدوان مبيت، وأن هذين الحدثين قلبا، رأساً على عقب، حياة الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية عموماً، وأن الفترة الزمنية بينهما لم تتجاوز الـ19 عاماً، وأن هذه الفترة لم تكن بالنسبة لإسرائيل هدنة، كما تمت تسميتها، بل استراحة محارب، راح يعد ويستعد، وينتظر الفرصة المناسبة لمعاودة الهجوم لاستكمال تحقيق حلم المشروع الصهيوني لإقامة "دولة إسرائيل الكبرى". تتضح الحقائق أعلاه، كما تتضح الشمس في عز الظهيرة، اتصالاً بواقعتيْن أساسيتيْن، هما:
أولاً: على الرغم من تسميتها لعملية التطهير العرقي البشعة التي ارتكبتها عام 48، بالحرب الدفاعية عن وجودها، كتسمية توحي بزور التزامها بالنسبة التي حددها لها قرار التقسيم من مساحة فلسطين، فقد تجاوزت إسرائيل هذه النسبة، (53%)، حتى أصبحت 78% منها. بل ومنعت بالقوة، خلافاً لما نص عليه القرار الدولي 194، عودة اللاجئين إلى ديارهم وبيوتهم التي شردوا منها، وشرعت فوراً في مصادرة أرضهم والسيطرة عليها وتهويدها، وارتكبت، مجزرة كفر قاسم بعد سنوات على إنشائها. هذا ناهيك عن مشاركتها في العام 56، أي بعد 8 سنوات فقط على إنشائها، إلى جانب كل من بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر، ذلك من دون نسيان أن الإنذاريْن السوفييتي والأميركي، هما ما أجبرا قادتها، في حينه، على وقف الحرب، والانسحاب من قطاع غزة.
ثانيا: على الرغم من تسميتها للعدوان المبيت الذي شنته عام 67 بالحرب الدفاعية الاستباقية الاضطرارية لمنع تعرضها لحرب عربية وشيكة تستهدف إبادتها، كتسمية توحي باستعدادها للتخلي عن "مناطق 67" مقابل الاعتراف بوجودها وأمنها على "حدود 48"، فقد باشرت إسرائيل فوراً، في مصادرة واستيطان وتهويد الأراضي الجديدة التي احتلتها، سواء في الضفة وقطاع غزة، أو في الجولان السوري وسيناء المصرية؛ بل ضمت "القدس الشرقية"، وأعلنت القدس بشطريها "عاصمة أبدية لدولة إسرائيل". وأكثر، فبعد نحو ربع قرن من مفاوضات "الأرض مقابل السلام"، لا تزال إسرائيل، بأحزابها الصهيونية كافة، وحكوماتها المختلفة، تتمسك بلاءاتها المعروفة: لا للانسحاب من كامل "مناطق 67"، ولا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على "حدود الرابع من حزيران"، ولا للتنازل عن القدس "عاصمة إسرائيل الأبدية"، ولا لحق عودة اللاجئين، ولا لوقف عمليات المصادرة والاستيطان والتهويد في الضفة، وقلبها القدس، فضلاً عن استمرار الاستيطان في الجولان السوري، ولا للتنازل عن مطلب الاعتراف بإسرائيل، غير محددة الحدود، "دولة للشعب اليهودي".
هذا يعني أن على كل من يريد أن يفهم إسرائيل فهما عميقا ودقيقاً، ألا يلتفت إلى خطابها الزائف عن "التسوية والسلام"، بل إلى ممارستها على الأرض. فبمعزل عن تعدد أحزابها، تبقى الصهيونية واحدة، وإقامة، وتكريس "الدولة اليهودية"، هو هدفها، وفرض التعايش بين المواطن والمستوطن، وبين المُستعمر والمستعمَر، هو مسعاها، وتذويب الهوية الوطنية والقومية الفلسطينية، عبر "تحويل الفلسطينيين إلى غبار"، هو حلمها، والعدوان والتوسع من مقتضيات مشروعها، وموضوع الأرض والسيطرة والسيادة عليها هو محور الصراع الوجودي الشامل المفتوح وطويل الأمد معها، ذلك ليس منذ إقامة إسرائيل، بل منذ انطلاق مغامرتها الكبرى المتمثلة بإقامة "دولة يهودية" على "أرض الميعاد"، تنفيذاً لكذبة أنها "أرض بلا شعب"، واتكاء على فرضية "الكبار يموتون، والصغار ينسون".
أما مقولة نتنياهو: "ستعيش إسرائيل على حد السيف إلى الأبد"، فصحيحة، طالما ظل هو وائتلافه الحكومي المهووس بأساطير التلمود، وتعاليم جابوتنسكي، متشبثاً بالفرضيات الصهيونية الواهمة، ومتناسيا لحقيقة أنه طالما أن الأرض هي جذر الصراع القائم على الارتباط الروحي بين الإنسان والتراب والعرق، فإن الغلبة فيه، في نهاية المطاف، تقدم الأمر أو تأخر، هي لمن يدقون هذه الأرض بفؤوسهم، وليس لمن حولوها إلى قاعدة للصواريخ، ولمن ينشدون الحياة، وليس للباحثين عن الموت لـ"أغيارهم" ولأنفسهم معاً.
المصدر: صحيفة الأيام