مشاهد لا تنسى من حياة رسول الله مع أمّه آمنة


تم النشر 22 مارس 2016


عدد المشاهدات: 1794


مشاهد لا تنسى من حياة رسول الله مع أمّه آمنة !

بقلم الدكتور أسامة جمعة الأشقر


   كان رسول الله يشتاق لأمّه كثيراً حتى إنه استأذن ربّه في زيارتها فأذِن له ربّه كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ؛ فلما وصل إلى قبرها الذي يبعد عن المدينة نحو 210 كلم جنوباً في الطريق إلى مكة على طريق الهجرة القديم ، قريباً من بلدة "مستورة" في موضعٍ يقال له " الخريبة" ...
   عندما وصل إلى هناك تتفجّر عواطف رسول الله في مشهد حزين أبكَى أصحابَه ، ونترك لكم الإمام البيهقي يروي لكم في كتابه دلائل النبوة حكاية هذه الزيارة التي أوردها بإسناد صحيح : (انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسمِ قبرٍ فجلس، وجلس الناس حوله فجعل يحرك رأسه كالمخاطِب ثم بكى فاستقبله عمر فقال : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : هذا قبر آمنة بنت وهب ! استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقَّتُها فبكيتُ؛ قال : فما رأيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة ! 
   ويروي لنا ابن حِبّان في صحيحه القصة بمشهد أكثر تحزيناً وانفعالاً ومناجاةً ، عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر، فأمرَنا فجلسْنا، ثم تخطَّى القبور حتى انتهى إلى قبرٍ منها، فجلس إليه فناجاه طويلاً ، ثم رجع رسول الله باكياً فبكينا لبكاء رسول الله ، ثم أقبل علينا فتلقاه عمر رضوان الله عليه وقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله ! فقد أبكيتَنا وأفزعتنا ! فأخذ بيد عمر ثم أقبل علينا فقال: أفزعَكم بكائي ؟ قلنا: نعم ! فقال: إن القبر الذي رأيتموني أُناجي قبر آمنة بنت وهب، وإني سألت ربي الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزل عليّ: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرِّقّة، فذلك الذي أبكاني ! ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة !
   لعل رسول الله تذكّر وجهَ أمّه الحزين حين كانت تنظر إلى وليدها اليتيم الذي لم يرَ أباه كما رآه الأطفال من حوله، ورأى حزنها وهي الشابّة الصغيرة التي أوجعها فقدُ زوجها الفتيّ الشريف وهو غريبٌ عنها في تجارةٍ ...
لعل رسول الله يتخيّل حالَها وهي تفقد ولدَها لأول مرة جرياً على عادة العرب في استرضاع أولادهم في البادية فوضعت طفلها الرضيع في يد امرأة غريبة تعيش في بادية نائية عن أمّه ، تنتظر لقاءه في المناسبات المتطاولة ...
   لعله يتخيّل صورتها وهي تستقبل وليدَها بيدها بعد أن خافت مرضعته حليمة السعدية عليه من أولئك الذين أخذوه وشقّوا صدره ثم غسلوه بماء !
   ولا شك أنه يذكر أمّه وهي تعلّمه الوفاء والبر والصلة عندما ذهبت بابنها الصغير ذي الأعوام الخمسة إلى أخوال أبيه من بني عدي بن النجار في المدينة تُزِيره إياهم، وتعرِّفه إلى أهله، وكأنها كانت منبَّأة برؤى وعلامات بما سيكون له من شأنٍ في هجرته إلى هذا الموضع .
   لابد أن رسول الله يتذكّر أنه كان في زيارة جدّته سلمى بنت عمرو زوج عبد المطلب بن هاشم وأهلها في المدينة، حين بقي هناك شهراً لا ينسى تفاصيله الجميلة حين كان يلعب مع تلك الجارية الأنصارية التي ظل رسول الله يذكر اسمها: إنها أنيسة !
هناك كانت أمّه تنظر إليه وهو يطيّر طائراً صغيراً كان يقع على جدار حصن أخواله مع غلمان أخواله وصغارهم من أقرانه !
هناك كان يعوم في بئر لأخواله ويمرح في ماء هذه البئر اللطيفة بين النخيل المتطاوِل فرحاً برؤية هذا الفتى المبارك !
لابد أن رسول الله شاهدَ أمّه وهي تزور قبر أبيه قرب هذا الأطم "الحصن" ، ويتذكر رسول الله ذلك قائلاً - وهو ينظر إلى دار النابغة - : ها هنا نزلت بي أمي ! وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب !
بعد شهر من الزيارة كان ثمة أمر يستعجل أمّه أن تعود به إلى مكة فقد شاهدتْ نفراً من يهود يحومون حول ابنها فخافت عليه، وقررت أن تعود .
ربما كانت مريضة مجهودة ، لكن ابنها أغلى عليها من حياتها، فمضت به في طريق القوافل المطروقة بالتجار والمسافرين ترافقها جاريتها أم أيمن ، وفي الطريق رأى هذا الطفلُ الصغيرُ أمَّه تهوي من مرضها ، هل كان هذا الطفل النبيه يعرف معنى الموت في عيني أمّه !
لا أظن أن أم أيمن سمحت له أن يرى أمّه تموت أمامه، لكن هل ستفوّت هذه الأم المريضة وداع ابنها في آخر لحظات حياتها ! 
هناك دفن هذا الطفل الصغير أمّه ! ووقف على قبرها بين تلك القبور لأولئك الغرباء المدفونين هناك، وبقي يتذكّر موضعه وهو قد تجاوز الخمسين من عمره ! ويتذكر كيف عاد حزيناً وحيداً يتيم الأبوين مع أم أيمن ... ليبدأ سيرة جديدة ذاكراً روايتها لتلك الرؤيا العظيمة: ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاء لها قصور الشام !

 




- انشر الخبر -