المنّ في الصدقات


تم النشر 05 مارس 2016


عدد المشاهدات: 2868


موقع الدكتور يونس الأسطل..

ورد إلينا أسئلة حول المن في الصدقات.

الجواب

إن المستحبَّ في الصدقات إخفاؤها؛ حتى لا تعلم شِمالُه ما أنفقت يمينه؛ فإن ذلك أدعى إلى الإخلاص لوجه الله، وابتغاء رضوانه، وهو أبعد عن الرياء المحبطِ لثواب الأعمال، كما أن فيه حفظاً لماء وجه الفقير؛ فإن المحتاج الحقيقي يتحرج من مِنَّةِ الناس عليه، ولذا فإننا نجد أكثرهم قد أُحْصِروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، لا يسألون الناس إلحافاً، مع أنك تعرفهم بسيماهم.

ولا بُدَّ من التنبيه هنا إلى أن الفقير هو المتصدق على الغنيِّ، لأنه  تسبب في نيل المتصدق الأجر والثواب، فضلاً عن طهارة ماله من شبهة الحرام، وطهارة نفسه من عبودية المال، ومن الشُّحِّ المذموم، فإن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله لا يفعلون بذلك الخير لأنفسهم؛ بل هو شَرٌّ لهم، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، كما أن من تَزَكَّى فإنما يتزكى لنفسه، وإنَّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يُتْبِعونَ ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون.

أما إذا أحبَّ المتصدق أن يكون للمتقين إماماً، وأن يكون للناس فيه أسوةٌ حسنة، فلا بأس أن يُظهرَ الصدقة، حتى يُقتدى به، ويكونَ سبباً في تشجيع الآخرين، فهذه نية حسنة لا تؤثر في المثوبة، وقد قال ربنا تبارك وتعالى:

"إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " البقرة (271)

وأما بخصوص قوله تعالى من سورة المدثر: "وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ" الآية (6)

فإن فيها أكثرَ من تأويل، ومنها: لا تفعل الخير لترائي به الناس، وإن كان أكثر العلماء يحملونها على ما يُسمى بهدية الثواب؛ وهي أن يبعث الفقير بهديةٍ متواضعةٍ لبعض الأغنياء وهو يعلم أنه يكافئ عليها بأحسنَ منها، فإن تكثير المال بهذه الطريقة نوع من الربا، وقد قال فيه ربُّنا جل جلاله:

"وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ " الروم (39).

وأحبُّ أن أنصح العاكفين على مواقع التواصل الاجتماعي أنها ليست لنشر الأسرار، ولا للقيل والقال؛ فإن المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفين في المجتمع، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وينتفعون بتلك الأخبار في كشف عورات أصحابها، والإضرار بهم، فاجتنبوا الريبة، واكتفوا بالفوائد العلمية، أو الفرائد من النصوص، والحِكَم، والأشعار، وغير ذلك مما يعود عليكم، وعلى المتصفحين لمواقعكم بالنفع في الدنيا والآخرة.

ولعله من المناسب –ونحن نتحدث عن الصدقة- أن أذكر أن بعض السلف الصالح كان إذا قَدَّمَ صدقته لإخوانه المُعِسِرين يضعها في كفِّه، ويبسط يده؛ ليلتقطها الفقير من فوقها متأولاً أن اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى؛ فإننا أهدينا للمسكين الدنيا، وأهدى لنا الآخرة والمغفرة والجنة، كما أن ما نقدمه للفقراء هو حَقُّهم في أموالنا؛ أشبهَ ما يكون بالديون التي نقضيها، فنرتاحُ من همومها وغمومها، وما تَصَدَّقْتَ به فهو الباقي، وأما ما بخلت به، فقد شَقيتَ في جمعه، ولن تنجو من حسابه أو عقابه، ثم إنه مال غيرك من الوارثين، وربما من الغاضبين أو الناهبين.

وينبغي أن نعلم أن المال ملكٌ لله، قد جعله وديعة عندنا، ونحن لسنا أكثر من أُمناءَ عليه، ولذا فإننا عندما نطيع الله، فننفق منه، إنما نتصرف وفق مراد مالكه الحقيقي، ولا نعدو أن نكون بريداً بين الله عز وجل وعياله المحتاجين؛ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، ولله ميراث السموات والأرض، فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، ولا تخشوا من ذي العرش إقلالاً، فما نقص مالٌ من صدقة، وما أنفقتم من شيء فهو يُخْلِفُه، وإنْ تُقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم، ويغفر لكم، وإن تشكروا بالإنفاق يَرْضَهُ لكم، وقد تَأَذَّنَ ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد، وقد خسف بقارون وبداره وخزائنه الأرض، وكأنه لم يَغْنَ بالأمس، والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ  أليمٍ، يوم يُحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، ويقال لهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون، أيحسبون أن ما أمدهم الله به من الأموال والبنين أنه يسارع لهم في الخيرات، بل لا يشعرون؟!!، فإن أبا لهب ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذاتَ لهب، وإن الوليد بن المغيرة، وقد جعل الله له مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، سيرهقه في جهنم صعوداً، ويقول هو وأمثاله: ما أغنى عني مَالِيَهْ، هلك عني سلطانيه، وقد يُحاط بثمره في الدنيا، فَيُقَلِّبُ كَفَّيْهِ على ما أنفق فيها، وهي خاويةٌ على عروشها، أو يطوف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون، فتصبح كالصريم، أو يجعلها حطاماً، فتقولون: بل نحن محرومون، يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو طاغين، كما في سورة الكهف، والقصص، والقلم، وغيرها.

(ولاتَ ساعةَ مَنْدمِ) كما يقول المثل العربي.




- انشر الخبر -