الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ على المسلم أن يجاهد نفسه دائما على التحلي بكل خُلقٍ قويمٍ و أدبٍ كريمٍ، لأن هذا من أسباب نجاحه وعنوان فلاحه في الدارين، وهو كذلك من وسائل كسب محبة و احترام الآخرين ، يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-:"فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب ". مدارج السالكين (2/390)
ومن الأوصاف الكريمة والخلال الحميدة التي ينبغي أن يُعرف بها العبد المسلم أيها الأفاضل أن يكون لسر من وثق فيه كاتما، يقول الأصبهاني – رحمه الله- :"والسِّر هو الحديث الـمُكتَّمُ في النفس ".المفردات في غريب القرآن ( ص 228)
ويقول الإمام ابن حبان – رحمه الله- :" السِّر إنَّما سمِّي سرًّا؛ لأنَّه لا يُفشى ". روضة العقلاء (ص 190)
لأن السِّر يعتبر أمانة، فعن جابر – رضي الله عنه- أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :"إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ بالحديث ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ ". رواه الترمذي ( 1959) ، وحسنه الشيخ الألباني – رحمه الله-.
يقول المباركفوري – رحمه الله- :" قوله (إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ) أي عند أحد (بالحديث) أي الذي يريد إخفاءه ( ثُمَّ الْتَفَتَ) أي يمينا وشمالا احتياطا ( فهِيَ ) أي ذلك الحديث وأنت باعتبار خبره، وقيل لأن الحديث بمعنى الحكاية ، وقيل أي الكلمة التي حدث بها (أَمَانَةٌ ) أي عند من حدثه، أي حكمه حكم الأمانة فيجب عليه كتمه ". تحفة الأحوذي ( 6/ 79)
لذا فإن حفظه في الأصل عليه واجب ونشره بلا مصلحة شرعية محرم، يقول ابن بطال – رحمه الله- :"السِّر أمانة وحفظه واجب، وذلك من أخلاق المؤمنين ".شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 63)
و يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" والسِّر هو ما يقع خفية بينك وبين صاحبك ولا يحل لك أن تفشي هذا السِّر أو أن تبينه لأحد سواء قال لك لا تبينه لأحد أو عُلم بالقرينة الفعلية أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد أو عُلم بالقرينة الحالية أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد ". شرح رياض الصالحين ( 4/36)
وبثه بين الناس يدل على عدم حفظ الأمانة والاستهانة بأمرها،وهذا مما يدل أيها الأحبة والإخوان على نقص وضعف الإيمان، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال ما خَطَبَنَا نبي الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قال:" لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ له،وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ له ".رواه الإمام أحمد في المسند (3/135) ،وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله- في صحيح الجامع ( 13135)
يقول المناوي –رحمه الله-:"إن المؤمن من أمنه الخلق على أنفسهم وأموالهم،فمن خان وجار فليس بمؤمن، أراد نفي الكمال لا الحقيقة ".التيسير بشرح الجامع الصغير (2/488)
ولذا فليَعلَم كل من مُسرِّبٍ للأسرار أن فعله هذا هو من عمل الأشرار و ليس من شيم الرجال الأخيار،يقول الراغب الأصفهاني- رحمه الله-: "إذاعة السِّر من قلة الصبر، وضيق الصدر، وتُوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء". الذريعة إلى مكارم الشريعة ( ص212)
وقد خان بفعله هذا من وثق فيه وائتمنه، يقول الإمام الحسن البصري- رحمه الله- :" إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك ".الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا ( 404)
ويقول الإمام ابن حبان – رحمه الله- :" السِّر أمانة وإفشاؤه خيانة". روضة العقلاء (ص 189)
ويزداد جرم هذا الفعل ويشتد إثمه في بعض الصور و الحالات ومن ذلك أيها الإخوة والأخوات أن ينشر الزوج أو الزوجة
بين الآخرين ما يجري بينهما من أمور عند الجماع و الاستمتاع ، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- أنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :" إِنَّ من أَشَرِّ الناس عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يوم الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إلى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إليه ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا ". رواه مسلم ( 1437)
يقول الإمام النووي – رحمه الله- :" وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجرى من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه، لأنه خلاف المروءة".الشرح على صحيح مسلم ( 10/ 8)
إن الذي يُعرف بين الناس بكتم وحفظ السِّر أيها الأحبة الأفاضل ليذكر دائما بينهم بكل فضل وخير، لأنه مصدر ثقة عندهم،ولأن الاتصاف بهذا الخلق الجميل والأدب القويم النبيل يُورث أيضا المحبة ويزرع الألفة وهو من أسباب ارتفاع المنزلة والمكانة بين الأنام، قالت الحكماء: "كتمان السِّر كرمٌ في النفس، وسموٌّ في الهمة، ودليلٌ على المروءة، وسببٌ للمحبة، ومبلغٌ إلى جليل الرتبة". لباب الآداب لأسامة بن منقذ(ص 71)
فعلى المسلم أن يجتهد هو في حفظ سره قدر الإمكان، وليحرص أشد الحرص على عدم البوح به لكائن من كان حتى وإن كان من الثقات، يقول الإمام ابن حبان – رحمه الله- :"فالواجب على من سلك سبيل ذوي الحِجى لزوم مَا انطوى عَلَيْهِ الضمير بتركه إبداء المكنون فيه لا إلى ثقة ولا إلى غيره". روضة العقلاء (ص 188)
حتى لا يُصاب بعد ذلك بالندم و الحسرات، يقول الإمام ابن الجوزي - رحمه الله- :"رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به.
فوا عجباً ! كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثم لاموا من أفشاه ؟!".صيد الخاطر ( ص 86)
ويقول الإمام ابن حبان – رحمه الله- :"فتحصين السِّر للعاقل أولى به من التلهف بالندم بعد خروجه منه". روضة العقلاء (ص 191)
لأن الحازم من الأنام أيها الأحبة الكرام هو الذي يصون سره ويكتم خبره، يقول الإمام ابن الجوزي – رحمه الله- :" إنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره ولا يفشيه إلى أحد".صيد الخاطر ( ص 87)
ويقول الإمام ابن حبان – رحمه الله- :"فيجب على العاقل أن يكون صدره أوسع لسره من صدر غيره بأن لا يفشيه". روضة العقلاء (ص 190)
فعلى من كان للأسرار حافظا سواء لسره أو سر غيره من الأنام أن يشكر الكريم المنان على هذه النعمة العظيمة والمنحة الكريمة، وليجتهد في المحافظة عليها و ليحرص على دعوة الناس للاتصاف بها ويذكرهم دائما بفضلها ومكانتها، وله على ذلك الأجر الكبير و الخير الكثير بإذن العزيز القدير.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم للاتصاف بأخلاق الأخيار ومن ذلك الحرص على كتم وحفظ الأسرار، ويُبعدنا جميعا عن كل ما فيه ذم وشر، ومن ذلك نشر وإفشاء السِّر، فهو سبحانه ولي ذلك والعزيز المقتدر.