(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)
من الحوار ينبثق النور للمجتمع، جملة كتبها أفلاطون قبل قرون، ومازال لها معاني واضحة في المجتمعات المتحضرة، ولكي ينبثق النور لا بد له من ارتباطه بمحاور الفكر وموضوعاته وقضاياه، سواء أكان في مجالات اجتماعية أو سياسية أوعلمية أو اقتصادية أو إعلامية أو غيرها من المجالات.
وقد يوجد حوار حول موضوع ما، ولكنا نجده أبعد ما يكون عن سمة الحوار الفكر السليم، اما لأسباب تتعلق بالمقدمات المطروحة وما تتصف به من شطحات وعمومية وعشوائية، أو لأن مثل تلك المقدمات لا تعتبر مواضيع فكرية تستحق البحث والجهد الذهني مقارنة بغيرها .
وأحيانا لأسباب تتعلق بتقديم النتائج والقناعات قبل أن يبدأ البحث في ما يقدم من طرح، وقد يتم تلافي هذه الأسباب أو تلك ومع ذلك يبتعد الطرح عن سمات الحوار الفكري الصحيح، نتيجة لابتعاده عن ما يتطلبه الحوار من حيادية ونزاهة واحترام أخلاق الانسانية. ومن أهم مميزات الحوار الفكري الناضج، أن يكون أسلوب الحوار يتصل أكثر بمفردات ومفاهيم ومعاني الموضوع المطروح، بحيث يكون هناك تقارب بين مستوى الطرح أو ما يتضمنه الحوار.
أما تعريف الحوار:
فهو التجاوب ومراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة، ومن معانيه الجدال والنقاش، والمناظرة، وقد يأخذ الحوار أبعاداًً وأشكالاًً أخرى مثل الحوار عبر وسائط الاتصال المختلفة ، كما أن أي نقاش أو تلاقي آراء وتعددها حول موضوع معين أو مواضيع متعددة، أو التقاء عدد من الآراء المختلفة للتباحث والنقاش كل ذلك يعد حواراًً، وهنا تجدر الإشارة أن للحوار ضوابط وهي على النحو :
أولاً: ضوابط الحوار الفكري:
1. القبول بتعدد الثقافات والتعارف بينها:
يربي الإسلام المسلمين على أن الحوار طبيعة إنسانية، كما أنه ضرورة دينية، فقد كان مهمة الرسل جميعاًً صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، فالمسلم منفتح على الحوار مع غيره من الأفراد والثقافات المختلفة ولكنه في ذات الوقت له ثوابته التي يتمسك، فيقول الله تعالى : }قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون{ آل عمران: 64
كما وأن الثقافة الإسلامية تؤمن بوجود مصطلحات متقابلة مثل: لإيمان والكفر، والهدى والضلال، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، والعدل والظلم، والحق والباطل ، كما أن المصطلحات المتقابلة تقسم الفكر والثقافة بين المسلمين وغير المسلمين ، ولا يقبل الإسلام وجود هذه المتقابلات في حياة الإنسان الواحد، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً ًولا علمانياًً، أو عادلاًً وظالماًً، أو على الحق والباطل، أو مهتدياًً وضالاًً ، فالإسلام يؤمن أيمان عميق بأن كل ثقافة تطرح نفسها من خلال مفاهيمها ومصطلحاتها الحياتية، ولهذا فإن الحوار بين ثقافتين أو أكثر يقتضي الاتفاق على مفاهيم ومصطلحات، وتحديد المرجعية التي يرجع إليها عند الاختلاف في المعنى أو المضمون.
2. التواضع في طلب المعرفة والالتزام بقواعدها:
لا يكون الحوار مثمراًً في مجال معرفة الحق إلا إذا كان قائماًً على الأدلة والبراهين، ولقد علمنا الإسلام في مجال إحقاق الحق أن نتحاور مع الآخرين.
3. معرفة الآخرين ومد جسور الود معهم:
يربي الإسلام المسلمين على التعارف على الآخرين ومد جسور الود معهم ابتغاء البيان لما عند المسلمين من الحق.
ثانياً: إشكاليات الحوار:
إن غياب الحوار من المجتمع يعني غياب الحرية وازدياد العنف، والانسيابية في التعبير عن الأفكار والآراء، وهو دليل على تحكم الاستبداد بالرأي، ومصادرة حرية الفكر والثقافة، وإبراز للحالة الفردية ونبذ الآخر وإقصائه.
ثالثاً: الحوار وصحة البنية الفكرية:
لاشك أن غياب الحوار في المجتمعات له عدة أسباب، بعضها ناشئ من خلل في الفهم الجمعي للمجتمع، ونذكر بعض الأسباب والإشكاليات اللاتي تقف حجر عثرة في طريق الحوار:
1. التربية والتنشئة فالتربية تكون على أساس من مصادرة الحرية، ومسخ الشخصية.
2. غياب ثقافة الحوار من المنظومة الاجتماعية، فيتم ممارسة الإلغاء، والإقصاء بين طبقات المجتمع ورتبه.
3. ممارسة القيادات الاجتماعية تسلسل الاستبداد الطبقي.
4. الخوف على المكانة الاجتماعية، وسحب البساط من تحت أقدام المتنفذين، والمتسلطين سواء من التيار الديني أو السياسي.
5. التشنج وإغلاق الفكر اتجاه الرأي الآخر.
ثالثاً: المجتمع يحتاج إلى إنضاج الأفكار السليمة:
من الطبيعي أن يكون للحوار قيمته الكبيرة، وسمته العظيمة في بناء الأفكار وتلاقحها، لأن به يتم إرساء قواعد الأفكار الايجابية ، وأن كل المجتمعات يوجد فيها روح الحوار الإيجابي، وعرض الأفكار وتحليلها، ستجد التفاهم موجود بها، وحيث ما وجد الحوار وجد التعايش السلمي بين منتسبي الوطن، كما أن نوافذ العقول تكون مفتوحة اتجاه تقبل الأفكار التي تعرض دون ممارسة أية وصاية فكرية وعقلية من قبل الرموز والمتنفذين وأصحاب القرار.
كما وأن إلغاء الحوار ومصادرته يعد من الأمور التي تلغي أكبر الحريات، والحقوق للإنسان، وإن إلغاء الحوار يعني مصادرة الرأي والفكر، وسد جميع منافذ تلاقح الأفكار وتلاقيها، وتصبح الفرصة سانحة للمستبدين والقمعيين، الذين يعيشون في أجواء من التسلط والقهر في غياب ومصادرة حريات الآخرين، وبالخصوص عندما يتم محاربة الحوار، وقمعه بشتى الطرق والأساليب،.
غايات الحوار في المجتمعات:
للحوار غايتان إحداهما قريبة والأخرى بعيدة:
- غاية الحوار القريبة والتي تطلب لذاتها دون اعتبار آخر فهي محاولة فهم الآخرين.
- الغاية البعيدة فهي إقناع الآخرين بوجهة نظر معينة.
وهنا نذكر بعض أنواع الحوارات:
- الحوار العدمي التعجيزي : وفيه لا يرى أحد طرفي الحوار أو كليهما إلا السلبيات والأخطاء والعقبات وهكذا ينتهي الحوار إلى أنه لا فائدة منه.
- الحوار المزدوج: وهنا يعطى ظاهر الكلام معنى غير ما يعطيه باطنه لكثرة ما يحتويه من التورية والألفاظ المبهمة وهو يهدف إلى إرباك الطرف الآخر ودلالاته أنه نوع من العدوان الخبيث.
- الحوار السلطوي: ونجد هذا النوع من الحوار سائداًً على كثير من المستويات حيث يلغي أحد الأطراف كيان الطرف الآخر ويعتبره أدنى من أن يحاور معه، بل عليه فقط السماع للأوامر الفوقية والاستجابة دون مناقشة أو تضجر وهذا النوع من الحوار فضلاً عن أنه إلغاء لكيان وحرية طرف لحساب الطرف آخر فهو يلغى
ويحبط القدرات الإبداعية للطرف المقهور فيؤثر سلبيا على الطرفين.
- حوار المناورة: وينشغل الطرفان أو أحدهما بالتفوق اللفظي في المناقشة بصرف النظر عن الثمرة الحقيقية
والنهائية لتلك المناقشة وهو نوع من إثبات الذات بشكل سطحي.
- الحوار الإلغائي أو التسفيهي: فيصر أحد طرفي الحوار على ألا يرى شيئاً غير رأيه ، وهو لا يكتفي بهذا بل يتنكر لأي رؤية أخرى ويسفهها ويلغيها وهذا النوع يجمع كل سيئات الحوار السلطوي وحوار الطريق المسدود.
- حوار الطريق المسدود: يعلن الطرفان منذ البداية تمسكهما بثوابت متضادة تغلق الطريق منذ البداية أمام الحوار وهو نوع من التعصب الفكري وانحسار مجال الرؤية.
- حوار البرج العاجي: ويقع فيه بعض المثقفين حين تدور مناقشتهم حول قضايا فلسفية أو شبه فلسفية مقطوعة الصلة بواقع الحياة اليومي وواقع مجتمعاتهم وغالباً ما يكون ذلك الحوار نوع من الفزلقة
وإبراز التميز على العامة دون محاولة إيجابية لإصلاح الواقع.
- الحوار السطحي (لا تقترب من الأعماق فتغرق: حين يصبح التحاور حول الأمور الجوهرية محظورا أو محاطاً بالمخاطر يلجأ أحد الطرفين أو كليهما إلى تسطيح الحوار طلباً للسلامة أو كنوع من الهروب من الرؤية الأعمق بما تحمله من دواعي القلق النفسي أو الاجتماعي.
وأخيراً آداب الحوار: و أساسيات التفاهم:
حسن الخطاب وعدم الاستفزاز وازدراء الغير، فالحوار غير الجدال، واحترام أراء الآخرين شرط نجاح، ومن أجل أن يكون الحديث بنّاءً لابد لنا من أن نتواصل مع الطرف الآخر أولاً ونتفاهم معه بشكل واضح ومثمر ثانياًً، فإن الكل منّا يمتلك قدرات فردية ومهارات أخلاقية يدير بها علاقاته مع الآخرين ويستخدمها في العديد من مواقف المساومة والتفاوض، إلاّ أن في مواقف الاختلاف أو النزاع التي في الغالب تثير شحنة قوية من الانفعالات فإننا أحياناً ننسى القواعد الأساسية للتواصل والحوار الهادئ.