يجب ألا يموت الأمل! د.سلمان العودة


تم النشر 04 مارس 2016


عدد المشاهدات: 2111


الأمل هو حادي العمل ، ولا ينشط المرء للعمل إلا ولديه طموحات وأهداف يسعى إلى تحقيقها ، وهذا بعض ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان الذي يسير بالغريزة فحسب .

 

وعندما يفقد الإنسان الأمل بالكلية يكون أمام نكسة نفسية يصعب أن يتعافى منها.

 

أعلل النفس بالآمال أرقبها       ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

 

ولهذا كان أخطر ما تواجهه الأمة هو اليأس الذي يقعدها عن العمل والإنتاج ، وينحرف بمسيرتها عن الصراط اللاحب المستقيم إلى منعرجات السبل والأهواء .

 

هذا شابٌ وضع أمله كله في شخص شيخه ، عالماً كان أو داعيةً أو مربياً ورأى فيه رمزية غير عادية ، تحكي صور ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد السلام أو المنذر بن سعيد .. أو هذا العالم الفحل ، أو ذلك المناضل الفريد ، وصار هذا الملم يُسقى يوماً فيوما ويُروى ويكبر ...

 

ولكن مضت الأيام وكبر الشاب ، وصار له رأيه ونظره وتفرده ، وتساوقت الأحداث ، وتفاوتت العقول ، وتضاربت الاجتهادات ، فلم يعد يجد الكلمة الأخيرة التي يصدر عنها دون تردد كما كان من قبل .

 

وربما وجد من متبوعه شيئاً من الضعف أو التباطؤ في المواقف العملية ، سمّه حكمةً أو خبرةً ، أو جبناً أو ما شئت ... المهم خاب الأمل !

 

وآخر ترعرع في ظل مجموعة من المجموعات الدعوية يرى من خلالها الحياة بأحداثها ومساراتها وتطلعاتها ، وهي في قرارة العاطفة أمل الأمة والإسلام ، وهو يحسب خطواتها ، ويعد لياليها ويقايس نجاحاتها ، ويمتزج بها لحماً ودماً وعقلاً وقلبا حتى لا يتخيل نفسه خارج إطارها إلا تفل واستعاذ ، وتغدو هي الصورة العملية للتطبيق الإسلامي وهي الكمال الذي لا يرى كمالاً خارجه إلا ودّ أنه رُدّ إليه ، ولا يرى نقصاً فيه -وهيهات- إلا تأوله أو نفاه أو تعاظمه.

 

ولكن هذه الصورة الجميلة تهتز أمام المتغيرات والأحداث ، ويكبر الناس ويتفردون باجتهاداتهم ، ويضيق عنهم الإطار الجماعي المرسّم ، فتتفرق بهم طرق الدعوة والخير ، ويمضي كلٌ إلى حال سبيله ...

 

وهكذا يعجز العقل عن التفسير والتحليل ، أهو التراجع ؟ أم التنازع ؟ أم ... أم ... ؟

 

وثالث رأى في مشروع ما ، علمي أو عملي أو سياسي أو قتالي ، أنه الحل الوحيد ، ولا حل إلا به ، ولا مخرج للأمة إلا عن طريقه ، ولا نجاة ولا عصمة ولا صدقية إلا لمن استمسك به ...

 

وفي هذه الأمثال ، وغيرها كثير ، مواضع للعبرة .

 

أولها أنه لا يحسن الإسراف في تقدير شيء ما فوق قدره ؛ لأنه ما رفع أحدٌ أحداً فوق قدره إلا وأنزل دون قدره بعد ذلك ،والحسنة وسط بين سيئتين .

 

لا بأس أن أتطلع لهذا العالم أو الداعية أو المصلح ، ولا بأس أن تتحرك آمالي الغافية ، لكن لم لا أضع مجالاً أو هامشاً على الأقل للمتغيرات والاحتمالات ، حتى لا أصاب بصدمة لو حدث خلاف الظن ؟

 

إنه ليست من المحتم أن يكون الأمر كما تصورته ، وليس ما تصورته هو بالضرورة ما يجب أن يكون ، والخيارات تظل مفتوحة ، ومن الفاضل جداً أن يعتدل الإنسان في قناعته في مشروع ما ، أو شخصٍ ما ، بحيث لا يفرط في الإلحاح على أهليته لهذه المرتبة ، أو هذا المقام ، فالغلو والجفاء كلاهما ليس من سبيل المؤمنين ولا من هدي المرسلين.

 

إننا نخطئ خطأً جسيماً حينما نتكئ تماماً على فردٍ أو جماعة أو مشروع باعتباره المخرج الوحيد ، والمخلص ، والمنقذ ، والرمز ، والأمل ، والحل ، ونمنحه من عاطفتنا وحماسنا ما لا يطيق ولا يحتمل ، ثم نطالبه بالمستحيل .

 

وهذا يقودنا إلى الموضع الثاني من مواضع العبرة ، وهو أننا بتناقضاتنا الفردية والجماعية والأممية نلقي بتبعاتنا على هذا الأمل الذي صنعناه ورسمناه ، فهذا يريد شيئاً ، وذاك يريد نقيضه ، وكل يغني على ليلاه .

 

فإما أن نجعل هذا المشروع مجمعاً للمتناقضات ، وهذا مصير بائس ، ونهاية أليمة ، وإما أن تبدأ الآمال المغرقة في التفاؤل في الانهيار والتلاشي .

 

إن تراكمات التراجع التاريخي ، وسلبيات الواقع بكل تجلياته ستكون على كاهل هذا المشروع البكر الوليد الناشئ ، وتجاوز الواقع والقفز عليه شيء غير ممكن .

 

إن كل مأساة تقع ، أو مصيبة تنزل ، أو عدوان يحتدم ، أو مظلمة تتفاقم ، أو ضُرٍ في بحر أو برٍ ... حتى مما له جذور قديمة ، وأسباب راسخة , هو مما يجب أن يكون هدفاً للتغيير ، ويجب أن تغيره هذه الجماعة ، أو هذا الفرد ، أو هذه الدائرة ، أو هذا العمل الدعوي أو الجهادي ، هكذا نتصور أحياناً .

 

ونتصور مع هذا أن هذا تغيير المنشود المفروض يجب أن يقع تحت سمعنا وبصرنا وإدراكنا ، فلا مجال لخطة طويلة المدى ، بعيدة الأجل تعدنا بإصلاح منتظر يشهده أولادنا أو أحفادنا ... نريد أن نرى النتائج في عمرنا وخلال حياتنا ، وإلا فمعناه أن العمل فاسد ، والأمل خائب ، والثقة في غير محلها ، وكل تعامل مع قضية مستجدة يجب أن يكون وفق مرئياتنا وتطلعاتنا ، وأن يدغدغ عواطفنا ، ويتعامل على أساس القوة والقدرة والمنطق النضالي .

 

وكأن الأمة المسلمة مستثناة من النواميس الإلهية التي تجعلها عرضة للصعود والانحدار ، والقوة والضعف ، والغنى والفقر ، والتمكين والاستضعاف .

 

وإذا كان من يشعر بالمسؤولية يحسب خطوته وكلمته أكثر فأكثر ، ويدرس الخيارات بعناية وترقب ، ويقيس الأرباح والخسائر ، فإن من خسر كل شيء وأفضى إلى شفير اليأس قد يمضي دون حساب .

 

كلا .

 

إن المهم هو أن يكون ثمة خطوة صحيحة وصادقة ومدروسة بعناية بعيداً عن الارتجال ، وأوهام القفز والتجاوز التي تخاطب العواطف وتعاند العقول .

 

ونحن مؤمنون بالأسباب حتى في دقيق الأمور فضلاً عن عظيمها .

 

ولقد أخطأت يوماً فوضعت مفتاح الباب لباب آخر فوجدته يتعصى عليّ ... فقلت لنفسي : سبحان الله ، كيف لا أعتبر من هذا المثال الصغير لما فوقه ؟

 

إن غيرة المؤمن وتطلعه للنصر يجعله أحياناً ينتظر من دولة وليدة واعدة تحقيق حلم ضخم ينتسب إلى عهود الخلافة التي تجتمع عليها كلمة الأمة فيحملها بذلك تبعة تنوء بها ، وربما كانت وعداً صادقاً بناءً لو ظلت في حدودها وناسبت بين الواجب والممكن ، ونأت عن انتظار الخوارق إلى فعل الأسباب .

 

وثالث هذه المواضع أن التنوع في المسالك والأسباب ، وإحكام التوازن بينها يحفظ للأمة آمالها ، ويجعلها بمنجاة من نوبات القنوط وعصفات اليأس المستحكم .

 

فطرق الخير كثيرة ، وليس النجاح محصوراً في عمل بعينه ، ولا يتوفر وعد إلهي بتخصيص شيء عن شيء إلا مجمل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

وكل عامل على وفق السنة النبوية فهو راشد بإذن الله ، فإذا صحت نيته فعمله صالح ، داعيةً كان ، أو معلماً ، أو منفقاً ، أو مصلحاً ، أو مجاهداً ، أو مديراً ، أو خطيباً ، أو ما شاء الله .

 

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً وقدوةً لكل فرد من هؤلاء ، وجاء هديه شاملاً لأبواب الإيمان كلها ،حتى قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه : « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً » ، وفي لفظ  « بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً.. » الحديث.

 

الخير ضروب وألوان وأشكال وأمثال ، ولا يحسن تضييق ما وسع الله ، ولا تحجيره ، ولا يسع الناس إلا شريعة ربهم ، أما اجتهادات البشر فتظل مسكونةً بأثر الماء والتراب ، وإن تألقت وتنمقت .

 

ولذا فالأمة بحاجة ملحة إلى نظام يتسع للجهود المتنوعة ، والطاقات المختلفة ، والمشاريع المتعددة ، وهي بمجملها تشكل أمل المسلمين وطموحهم ، وإذا تراجع شيء منها عضده الآخر ، وقد يفلح قومٌ في عمل فوق الظن ، ويضعف آخرون ، والنظر يخطئ ويصيب .

 

والأمة ليس محصورة في فئة من الدعاة أو العلماء ، بل كل من صح له وصف الإسلام فهو من الأمة ، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر؛ كما عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

 

وقد يكون من أهل النكاية في العدو ببأسه وشجاعته ، أو هو من أهل العائدة والفائدة للمسلمين بعلمه أو حرفته أو رأيه أو لسانه أو يده من ليس معدوداً من المتقدمين في علم أو عبادة أو سمت ، والأرزاق عند الله يقسمها كيف شاء !

 

ورابع هذه العبر أن يتهم المرء رأيه ، نعم ، له أن يقتنع به ولابد ، وأن يعرضه ، وليتحمس له في حدود المعقول المألوف ، دون أن يجعله الحق الذي يرد الناس إليه ، فقد تكون أتيت من قبل إصرارك على أنموذج خاص لا ترى الحق إلا من خلاله ، ولاتبصر النجاح إلا فيه ، وغاب عنك ماهو أنجع منه وأسنع .

 

ولقد خرج الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى الحديبية لا يظنون إلا أنهم فاتحو مكة ومطوفون ببيتها العتيق ، وأراد الحكيم العليم غير هذا ، وأبرمت معاهدة الصلح التي رأوها إعطاءً للدنية في الدين كما قال عمر رضي الله عنه : " فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ " .

 

لقد عجزت غيرة بعض الصحابة وحماستهم وقناعتهم الراسخة المستقرة بالفتح والعمرة عن استيعاب موقف الحكمة النبوية ، وتمثل هذا في شخص عمر على قوته وصحة يقينه ، ولهذا يقول أبو وائل شقيق بن سلمة : لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتينا نستخبره ، فقال : اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره لرددت والله ورسوله أعلم وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر ما نسد منها خُصم إلا انفجر علينا خُصم ماندري كيف نأتي له .

 

وأختم هذا الحديث العابر بهذه الحادثة العجيبة التي تكشف عن الرؤية المتزنة في الأحداث والمتغيرات ، وكيف استطاع رجل كابن عمر ، أن يلتقط من موقف أقرب إلى اليأس حبل الأمل ، والإشادة ببقاء هذه الأمة وديمومتها وخيريتها ، وأنها أكبر من الأفراد والجماعات والدول ، وأمنع من الجبال ، وأعصى على العوادي ، وإن كان يوهن عزمها ، ويرخي قبضتها داء الخلاف والتطاحن والتشاحن .

 

روى مسلم في صحيحه أن عبدالله بن الزبير لما قتل في حربه مع الحجاج في مكة ، وأمر الحجاج بصلبه على جذع في عقبة المدينة ، فجعلت قريش تمر عليه والناس ، حتى مر عليه عبد الله بن عمر فوقف عليه فقال : السلام عليك أبا خبيب ، السلام عليك أبا خبيب ، السلام عليك أبا خبيب ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم ، أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير .

 

ثم نفذ عبد الله بن عمر فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله ، فأرسل إليه فأنزل من جذعه ، فالقي في قبور اليهود ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه ... الخبر .

 

إنها مواطن عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .




- انشر الخبر -