بحثت كثيراً في قاموس اللغة العربية لمعنى كلمة مختار بدلالاتها الاصطلاحية مرتكز إلى خلفية التراث الفلسطيني في الإشارة لهذه الكلمة كموقع من مواقع السلطة والجاه فرزته أنظمة حكم متلاحقة على فلسطين ولأغراض متعددة. لكنني لم أجد ما يدل عليها، قلت في نفسي ربما عجزت اللغة العربية عن احتواء المعنى الدلالي لهذه الكلمة، فوجهت بحثي إلى اللغة الانجليزية ربما أجد مرادفة لكلمة "مختار" فلم أجد.
فتطوعت جاهداً أن أقوم بمقاربة بين الكلمة وما يمكن أن يقابلها باللغة الإنجليزية، مانحاً نفسي الحق في ذلك بحكم ادعائي بمعرفة الإنجليزية فلم أجد سوى كلمة Mayor، ربما هي الأقرب للدلالة الاصطلاحية لهذه الكلمة، مكتفياً بذلك تجنباً للخوض في مفاعيل اللغة ودلالاتها وخوفاً من الخروج من منطقة المسموح إلى منطقة غير المسموح به في نقد الثقافة المحلية.
والمختار من الناحية الوظيفية كان له دور محدد في سلم السلطة ولكنه في أدنى تراتبية مراكز القوى لأي سلطة حكم. وقد شهد المجتمع الفلسطيني أنواع متعددة من المخاتير من ناحية الدور الوظيفي وامتداد مشروعيته: منهم من قام باستيفاء مشروعيته في الإطار القانوي كأداة من أدوات السلطة، ومنهم من استمدها من المشروعية الأدبية والأخلاقية الممتدة من عمق الاسناد المجتمعي له، ونوع آخر جمع بين كلاهما في نماذج متميزة. فيما يتعلق بالنوع الأول لم يكن المختار بحاجة إلى كاريزمية القائد النخبوي، كانت كاريزما الموقع هي من تمنح وجوده وحضوره مكانة بين تجاذب الطاعة والنفور كأداة من أدوات السلطة. أما النوع الثاني، فقد لعبت كاريزما الشخصية الدور الأبرز في فرز حضوره المجتمعي كنقطة ارتكاز بؤرية للالتفاف حولها في دائرة أمان واستقرار كان هو عمودها. وأما النوع الثالث، وهو المتميز فقد جمع بين الأمرين بين مشروعية كاريزما الموقع وكاريزما الشخصية.
وبالإطلال على هذا الموقع من الزاوية المجتمعية نلاحظ دون عناء ما شكله هذا الموقع من إثارة للنزعات بين طبقات النخب في التراتبية العشائرية في مراحل معينة من تاريخ شعبنا حيث شكل موقع "المختار" سلطة فعلية ورمزية لنفسه ولدائرته المحيطة به داخل عشيرته، وكان عنواناً لقوة حضور العائلة بين القبائل والعشائر الأخرى. أما اليوم فإن هذا الموقع لم يعد يحمل الدلالات السلطوية ذاتها كما في السابق وشهد تراجع كبير بفعل التطور على الحياة المدنية وتعزيز سلطة القانون، إلا أن المكانة الرمزية وما تبقى منها من دلالات لها علاقة بالحالة الوجدانية للناس ما تزال كامنة في نفوس الكثيرين، حيث لا يمكن إغفالها أو القفز عنها بسهولة خصوصاً في مجتمع ما زال يحتكم إلى قواعد الحل العرفي تحث عباءة السلطة الوضعية ( القانونية) التي تمنحه مساحة واسعة في حل جملة كبيرة من المنازعات تصل بعضها إلى حد الجرائم، في حالة فريدة من الجمع بين المقبول وغير المقبول.
لكن وللأسف الشديد، وبحكم الواقع العملي من خلال الوقوف على بعض التجارب، أغامر بالقول أن هذه المسألة كشفت الصراع الحاد بين الثقافة التقليدية السائدة التي ترتكز على القيم القدرية، السلفية، والعمودية مع ثقافة أخرى مضادة مرتكزة على قيم الإبداع، والتفكير الجمعي والقيم الأفقية، في مشهد منكشف في سعي الأولى ابتلاع الاستحقاق المتمثل بنضج الوعي، ومحاولة حشو ايقونات المعرفة المستنيرة ببضائع فاسدة تنم عن عبثية وسخف في التفكير.
ويظهر ذلك جلياً في تغليب الولاءات الضيقة على المؤسساتية والتعاقد الاجتماعي ويبعد الكفاءة لصالح المحسوبية والعلاقات الشخصية، وكل هذه معيقات تقف ضد الإبداع ، وفي هذه المناخات يضعف العمل الجماعي وتسود فردية متخلفة لا تشبه فردية المجتمعات المتقدمة حضارياً، إذ هي أقرب إلى الحسد والتنابذ ، لذا لا بد من كسر حلقة القيم السالبة المعيقة للتنمية. ولكن المشهد لا يخلو من انتصارات تلك للثقافة المضادة، ففي حالات نموذجية رائعة، شكل فراغ موقع المختار(بغض النظر عن كل عناصر تكوينه التاريخية والثقافية)، فرصة رائعة لإعادة إنتاج هذا الموقع وهندسته بشكل يتوافق وفلسفة التطور في الحياة المدنية. فكانت الممارسة الديمقراطية المتمثلة بالانتخابات هي السبيل مما حقق انتصاراً واضحاً لقيم الإبداع في إعادة صياغة هذا الموقع بحلة جديدة. كانت أحد عائلات مدينة خان يونس(عائلة الجبور) سباقة في طرح هذا النموذج الرائع.
أما النموذج الأخر ( المرفوض) فقد شكل الصراع على هذا الموقع انقساماً عمودياً في مكون العديد من العائلات، واستثمر بطريقة سلبية في حالة استقطاب مؤلمة واصطفاف مرفوض دينياً ووطنياً، تداعت فيه أطراف غير واعية لذاتها وبذاتها إلى إعادة فتح أنفاق الماضي على سراديب تسكنها الأرواح الشريرة والنبش في القيم السالبة المناهضة للتطور والتنمية.
هذا النموذج لا يمكن تعميمه ولا يمكن أن يكون بديل عن السلم المجتمعي الذي يتشدق به البعض مدعياً بأنه سيكون ضحية الانعتاق من التقليد.
لذلك يتحتم علينا كنخبة ومثقفين كل في محيطه ودائرته العمل بقوة داخل مسالكنا المجتمعية على تذويب النزعات، والانتصار لفكرة المواطنة في دوائر المجتمع الصغيرة انطلاقاً من هذه الدوائر نحو الدائرة الأوسع، وذلك بتعزيز قيم الحوار البناء، قبول الأخر، والامتناع عن النبش في جيوب الماضي، والنظر لهذه الأزمات على أنها هي البداية والنهاية!