محمود المقيد.. أصم و"شبه كفيف" يبدع في الرسم


تم النشر 01 مارس 2016


عدد المشاهدات: 1918


غزة - هدى الدلو

خرج من رحم أمه مكابدًا للحياة، حاملًا في جعبته الألم بسبب مرافقته لإعاقة الصمم التي أبصرت معه نور الحياة، ولم يقف الوجع عند هذا الحد فقط، بل في أحد أيام شهر رمضان كان يتجول في شوارع المخيم ليلعب كباقي الأطفال، فرمى عليه أحد الأطفال "قنبلة" من الألعاب النارية أصابت عينه اليسرى ما أدى إلى حدوث نزيف بداخلها ومن ثم تفريغها ليفقد الرؤية فيها، وتضررت العين الأخرى بعض الشيء.. الشاب محمود المقيد (23 عامًا) من سكان مخيم جباليا شمال قطاع غزة يُسطر حكاية الألم والوجع بأبجدية الأمل والإبداع، ويواجه عثرات الحياة بموهبة الرسم.
 

مشوار بنور البصيرة



لعلك عزيزي القارئ تعتقد أن من نتحدث عنه يتحسس طريقه بعصا، أو أنه حبيس غرفته، ولكن الحقيقة المدهشة أنه منطلقٌ في فضاء واسع، فعلى سطح بيته الصغير المسقوف من ألواح "الزينكو"، حيث الإضاءة الكافية، يحمل محمود لوحته وريشته وألوانه يفرغ بداخلها شحنات الحزن تارة، والفرح تارة أخرى.

بإشارات سريعة تترجمها والدته لـ"فلسطين" يتحدث عن مشواره المتعب في الفن والذي تكلل بالإبداع والتميز، رغم كل ما واجهه من إعاقات وعثرات، وتقول على لسانه: "الإعاقة التي ولد فيها، وسنوات الضعف البصري لم تدخل اليأس إلى قلبه، أو تجعله يتوارى عن أنظار الآخرين، بل اندمج معهم وبدأ يخط ملامح عالمه بيده، فالرسم هو لسانه الناطق الذي يعبر من خلاله عما يدور في داخله".

وتسترق والدته منه الحديث لدقائق معدودة لتوضح: "اكتشفت موهبة ابني منذ أن كان طفلًا لا يتجاوز عمره الأربعة أعوام من خلال تلك العادة السيئة التي تستهوي الكثير من الأطفال وهي الكتابة على الجدران، فوجدت خربشاته في كل مكان، فما كان مني إلا التشجيع، وكان لأستاذه في المدرسة دور مهم في تشجيعه أيضًا".

فأمام كل لوحة من لوحاته تقف عاجزًا لقوته في شق طريق الخطوط، واختيار الألوان وتناسقها، والتفاصيل الطبيعية في اللوحة، فقد خطها بإحساسه الداخلي ونور البصيرة الذي كان أقوى من بصره، ووفق ما تبيّنه والدته, فقد درس في جمعية أطفالنا للصم متحديًا إعاقتيه، وظروفه المعيشية الصعبة، إلى أن وصل للصف الخامس فكان من الصعب أن يكمل طريقه رغم حبه للعلم والتعليم لحاجته لمدرس خاص بسبب ضعف نظره، ورغم تركه للدراسة ظل يمارس حياته الاجتماعية ويقيم علاقات صداقة مع الكثيرين، ولذا فهي تسعى لإلحاقه بدورة خاصة بمحو الأمية استجابة لرغبته في مواصلة تعليمه.

كان متحمسًا وهو يتحدث معنا، ولمعرفته أننا لسنا كوالدته نفهم لغة الإشارة، اختصر الطريق علينا بورقة وقلم ليكتب ما يودّ أن يخبرنا به، فكتب بأنامله: "محمود.. لم يتلقَ التعليم في المدرسة ولم يحالفه الحظ ليصل للجامعة، فلم يدرس العلوم ولا التاريخ ولا غيرها من المواد، محمود فقط موهوب".

 

عثرات الحياة

الخيال والتأمل والتفكير كانت السبيل الوحيد لصقل موهبة المقيّد، فكانت الطبيعة ملاذه الأول في الرسم لتزخر لوحاته بالحياة والألوان، فقد رسم في مخيلته عالمًا افتراضيًا، كما أنه لم يكن بعيدًا عن هموم وطنه، فكان للقدس والمسجد الأقصى نصيب من اللوحات، وتحدث من خلال رسوماته التشكيلية عن نضالات الشعب الفلسطيني ومعاناته بسبب الاحتلال، وتناول بأعماله التجريدية والكلاسيكية التراث الفلسطيني والدمج بين الأعراس القديمة والحالية، والعادات والتقاليد.

ورغم أن عائلته تقف بجواره لمساندته ودعمه، إلا أن الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها العائلة كانت تقف حائلًا أمام رسوماته، لما تحتاجه من إمكانيات مادية لشراء الألوان واللوحات، وغيرها مما يحتاجه الفنان، ولذا كان يدخر مصروفه الشخصي لشراء احتياجاته.

وبذلك يواجه المقيد ثلاثة أشباح تكاد تخيم على حياته، الإعاقة، والفقر، وعدم وجود تسويق للوحاته، بالإضافة إلى الصعوبات الجمة التي يواجهها في روتين حياته اليومية، إلا أنه يلجأ إلى الرسم والفن التشكيلي كمتنفس ووسيلة للتفريغ النفسي.

واستطاع أن يشارك بلوحاته الفنية في الكثير من المعارض المحلية، وحصل على المرتبة الثالثة ضمن جائزة فلسطين الدولية للإبداع والتميز عن فئة ذوي الاحتياجات الخاصة قبل أعوام.

الشاب محمود تقرأ في ملامحه الإرادة والإصرار على مواصلة طريقة، وتطوير موهبته، وهو يسعى حاليًا لأن يقيم معرضًا خاص به، ليستطيع من خلال لوحاته أن يوصل رسالته، وأن يدافع عن أرضه ووطنه فهو ملاذه الأول، وينقذ تراثه الفلسطيني من الاندثار.

 




- انشر الخبر -