إيجازُ الكلام فيما في الأضاحي من الحِكَمِ والأحكام


تم النشر 22 سبتمبر 2015


عدد المشاهدات: 1016



إيجازُ الكلام فيما في الأضاحي من الحِكَمِ والأحكام

 

{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }

الحج (37)

أَزِفُ عيد الأضحى؛ حيثُ يفزع المؤمنون بعد صلاتهم إلى بهيمة الأنعام ذَبْحاً أو نَحْراً، وهم لا زالوا صائمين عن أن يدخل أجوافَهم طعامٌ قبل أن يتناولوا شيئاً منها، لاسيما الكبد؛ تحقيقاً للسنة، وتشبهاً بأهل الجنة؛ فإن أول طعام يستمتعون به هو زيادة كبد الحوت، وإننا لنرجو أن نكون بذلك من الوارثين الذين يرثون الفردوس، هم فيها خالدون.

وإذا كان العلماء مختلفين في حكم التضحية؛ فإنني أختار في هذا العام رأي الحنفية القائلين بوجوبها؛ نظراً للحاجة الواسعة التي نزلت بالناس؛ فإن الحصار، وإغلاق الأنفاق، وتراجع الرواتب، وغيرها من المداخيل، قد حمل الكثير من المضحين على الإحجام عن تحمل أعبائها، خاصة أولئك الذين لا يَرْجُونَ حصول مالٍ قريب يقضون به ديونهم، كما أن بعض البُخَلاءِ عبيدِ المال لا يُضَحُّونَ عادة، ويكتفون بشراء وجبةٍ من السوق، وقد يبلغ الشُّحُّ ببعضهم أنه لا يُوَسِّعُ على عياله بتلك الوجبة، ويتشوف أولاده إلى إهداء الجيران، ونوال المحسنين.

وقد رأيت من الواجب أن نضع بين أيديهم طائفةً من الحِكَمِ والمقاصد التي قام عليها تشريع الأضاحي والذبائح التي يُتقرب بها لوجه ربنا تبارك وتعالى؛ ليزداد الذين آمنوا إيماناً بدوامهم عليها، ولعل الذين لا يضحون يتقون، أو يُحدث لهم ذكراً؛ فإن التضحية تنطوي على خير عظيم، لو أيقن به الناس لكانوا فيه من المتنافسين.

إن أول ما يطالعنا منها أنها سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد كان أُمَّةً، وجعله الله للناس إماماً، وأوحى إلينا أنِ اتَّبِعوا ملة إبراهيم حنيفاً، وهو الذي بلغ من الكِبَرِ عِتِيَّاً قبل أن يُرزق الولد، فلما جاءه إسماعيل إذا بالله عز وجل يأمره أن يحمله وأمَّه هاجَر القبطية إلى وادٍ غير ذي زرع عند بيته المحرَّم، ثم إنه لما بلغ معه السعي رأى في المنام أنه يذبحه، وبيده الشريفة، ولم يتردد في أمر الله، وما كاد يعرض على ولده ذلك؛ حتى لا يأخذه على حين غفلةٍ منه، إذا به يُحَرِّضُ أباه على تنفيذ أمر الله، ويقول: " يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ " الصافات (102)

وفي لحظة الصِّفْر إذا بجبريل عليه السلام يأتيه بكبشٍ عظيم فداءً له من الموت، وقد صَدَّقَ بذلك الرؤيا، وأتمَّ الابتلاء، وكان ذلك أعظم مظهر للإسلام؛ فإن الله جل وعلا لو كتب على الناس أنِ اقتلوا أنفسكم، أوِ اخرجوا من دياركم، ما فعلوه إلا قليل منهم، غير أن سيدنا إبراهيم قد عرض له الشيطان ثلاث مرات؛ ليأفكه عن طاعة ربه، وهو في كل مرة يرميه بسبع حصياتٍ، ونحن نتأسى به فيما يعرف اليوم بالجمرات، عند مسجد الخِيف في أول مِنَى من جهة مكة.

إن العيد يذكرنا بوجوب أن نضحي بأولادنا في سبيل الله، وأن يضحي أنجالنا بأنفسهم كذلك، وأن تستقبل أمهاتهم ذلك بالسخاء أولاً، ثم بالصبر والاحتساب، وتفويض الأمر لله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وإن أبناءنا من أنفسنا، كما حَذَّرنا أن يكون آباؤنا وأبناؤنا، وإخواننا وعشيرتنا، أحبَّ إلينا من الله ورسوله، وجهادٍ في سبيله، وكذا أموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها.

ومن حِكَم الأضاحي أن نشكر بها ربَّنا على تذليل بهيمة الأنعام لنا، فمنها ركوبهم، ومنها يأكلون، كما نشكر بها نعمة الحياة التي تمتدُّ عيداً بعد عيد، ولو شاء الله لجعلكم عظاماً ورُفاتاً قبل العيد بزمن بعيد، وفيها شكر نعمة المال؛ فإن من أطاق التضحية فقد ملك النِّصاب، أو نفقة أربعة أيام العيد والتشريق، فضلاً عن ثمن الأضحية، وهي من باب التحدث بنعمة الله؛ إذْ ظهور نعمة الله علينا بالانتفاع بها في غير سَرَفٍ ولا مخيلة من مقاصد الطاعة.

وفي الأضاحي إدخال البهجة على نفوس البنين والأهلين، ثم الأصدقاء والجيران، وكذا الفقراء البائسون، أو القانع والمُعْتَرُّ، فهي تكافلٌ اجتماعي وتراحم وإهداء، كما أن فيها ضيافةً وإكراماً للأرحام المهنئين، أو الأقرباء الزائرين، وتتجلى نعمة الله علينا، والتخفيف في التشريع، وأنه لم يحمل علينا إصْراً كما حمله على الذين من قبلنا؛ بل وضع عنا إصرنا والأغلال التي كانت على مَنْ قبلنا، فقد كان قبول صدقاتهم بأن تنزل نارٌ من السماء، فتلتهم القربان، فلا ينتفع به أحد، بينما أكرمنا ربنا تبارك وتعالى بأن اكتفى منا بإراقة الدم، وتفضَّل عليما بالجثة نأكل منها، ونُؤتي أُولي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وغيرهم.

ومن حِكَمها أيضاً نيل الأجر العظيم؛ فإن لنا بكل شعرة حسنة، ولو كانت صوفاً أو وَبَراً، كما يُغْفَرُ لنا بأول قطرةٍ من دمها؛ لنطيب بها نفساً، ولْنحرص على استسمانها واستحسانها؛ فإنها من شعائر الله، لكم فيها خير، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وقد أعدَّ الله الجنة للمتقين، كما جعل العاقبة في الدنيا للمتقين، وإنما يتقبل الله من المتقين.

ومن الحِكَمِ أيضاً أن نحييَ بالصلاة والنحر ذكر الله جل جلاله، فقد جعل لكل أمةٍ منسكاً؛ ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وأمر بذكر اسم الله عليها صوافَّ إذا كانت إِبِلاً تُنحر واقفة، أو كانت فَرْشاً تُطرح أرضاً قبل أن تذبح؛ ليكون ذكر الله عليها إذناً من خالقها ومالكها والمنعم بها بإزهاق روحها، فلا يكون عدواناً على المخلوقات التي تُسَبِّحُ بحمد ربها، وفيها مغايرة للمشركين الذين كانوا يُهِلُّون بها لغير الله، أو الفاسقين الذين لا يذكرون اسم الله عليها.

ولعل الحكمة في اشتراط المُسِنَّة للإجزاء أن تكون قد جاوزت البلوغ في مثل جنسها، فتكون مكافئةً للمضحي؛ إذْ لا تكليف قبل البلوغ، فتصلح فداءً له، خاصة وأنه يشترط أن تكون خالية من العيوب الفاحشة، وما يؤثر في السِّمَنِ وجُودةِ اللحم، وأن تكون من طَيِّبِ المال وأكثره حِلَّاً وإباحة؛ فإن الله طَيَّبٌ، لا يقبل إلا طيباً ومَنْ كان مطعمه حراماً، وملبسه حراماً، وغُذِيَ بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب له، وأيُّما جسدٍ نَبَتَ من سُحْتٍ فالنار أولى به، والعياذ بالله تعالى.

 

ربنا تقبل منا؛ إنك أنت السميع العليم، وأنت الجواد الكريم




- انشر الخبر -