مضمار السبق وجائزة البر ، بقلم/ أ. محمد عبدالحميد الاسطل أبوالقسم


تم النشر 29 ديسمبر 2021


عدد المشاهدات: 697

أضيف بواسطة : أ. ياسين محمد


كانت قدماي تلجان غرفة للمرضى وعلى اول مدخلها كان هناك شيخ يجلس بجوار امرأة على سرير المرض قد بلغ بها مبلغه، وهو لا يكف يردد الأدعية والابتهال لله عز وجل وهي لا تكف تلهج تردد خلفه....
عرفت بعد قليل أن المرأة هي ام هذا الشيخ وقد قاربت المئة، ورغم وجود أحفادها وأبنائها إلا أن هذا الشيخ الذي جاوز السبعين لا يكاد يغادر غرفتها وكأنه بباري البر في مضمار لا تكاد تجد فيه إلا قلة تمكنوا من إزاحة صخرة الكهف عن قلوبهم فأضاؤوا حول أرواحهم خصوصية نور لا يمكنها أن تتوارى في الدنيا والآخرة...
غادرت الغرفة وأنا اغبط هذا الشيخ الذي لم يقعده العمر عن القيام بواجبه، وقد ساقني الله تعالى إلى تلك الغرفة عدة مرات وخلالها وجدت هذا الشيخ الذي لا أعرفه - ويشرفني أن أعرفه - ملتصقا بسرير والدته التي لا تكف عن الأنين وهو لا يكف مهونا عليها بالدعاء وشد الازر ودعوتها إلى الصبر والاكثار من الدعاء والاستغفار، مستمرا بترسيخ طاعة البر بشكل قد لا تجده الا نادرا، ظلت الصورة حاضرة في وجداني، سعيدا لرؤيتها في بلادي، ولقد عرفت فيما بعد أن هذه المرأة ترملت وهي في ريعان شبابها إلا أنها آثرت البقاء حول ابنائها ترعاهم فقطفت ثمار ذلك برا ...
عدنا إلى البيت بأبي الذي ضربه المرض بلطف الله تعالى الذي اختار، حتى أنه لا يكاد من شدة الالم يعلم من بعد علم شيئا، وقد غشيه المرض فخرج عن إطار الوعي إلى ذاك الألم الذي اختاره الله تعالى له، فتسمع أمه التي قاربت المئة، فتهرع إليه تتحامل على قدمين لم تخذلها في النهوض، مضت وداخلها يحترق، فقد ودعت اثنين من ابنائها وكذلك زوجها، وها هي تقف أمام بكرها وقلبها يخفق كطير مذبوح خشية من أن تكلم في ابنها الثالث، تغالب دموعها، تحارب أحاسيسها، تنفض مياه الخوف والهلع على مشاعرها التي ما عادت تحتمل، علها تبرد حين تجلس بجواره، فقد من الله عليها بذاكرة كاملة وحضور ذهني جعلها تتمنى للحظة لو انها فقدت كل ذلك لكي لا تعيش الحسرات المتتالية المرافقة لهذا العمر الذي لا يكاد ينقضي...
وحين أطرق الفجر بخطوات نحو المسجد أجد اخي الشاب يجلس في الصف الأول خلف الإمام، محافظا على مكانه في المسجد، وما أن تنقضي الصلاة حتى ينهض نحو أبيه الذي هده المرض، فيقف عند رأسه، ويحضر بعض الطعام والشراب ويظل ماثلا أمامه حتى تطمئن نفسه، ثم يذهب مسرعا إلى بيته ليرتدي ملابسه مغادرا منزله نحو العمل الذي لا يكف خلاله يجري الاتصالات للاطمئنان على والده والبحث عن سبل علاجه، ثم يعود من العمل فلا تهدأ باله قبل أن يمثل امام والده يقدم له ما يحتاج، فهو مصر على سبق إخوته وتثبيت قدميه في مضمار السبق على جائزة البر، في مضمار يتساقط الكثير قبل بلوغ نهايته.....
وعلى مقربة مني كان هناك اخر لم تطاوعه نفسه أن يترك أمه التي فقدت زوجها قريبا فترك منزله وتوجه إلى منزلها مصرا على البقاء عند قدميها، مراعيا لها في كبرها ووحدتها غير ناظر لاخوته، مؤكدا على أن للبر أشكالا عديدة، يمكن للمرء ان لم يتمكن من الإحاطة بها جميعا فعلى الأقل فليحط ببعضها، فما لم يؤخذ جله لا يترك كله...



- انشر الخبر -