الصيام تدريب للجوارح على الفطام عن الحرام على الدوام د. يونس الأسطل


تم النشر 29 يونيه 2015


عدد المشاهدات: 1000


الصيام تدريب للجوارح على الفطام عن الحرام على الدوام

 

( الصيام تدريب للجوارح على الفطام عن الحرام على الدوام )

 

( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) 

البقرة (188)

يشدُّ الانتباهَ مجيءُ هذه الآية بعد أحكام الصيام مباشرة في سورة البقرة، وقد علَّق عليها العلماء بأنها انتقالٌ في التشريع من وجوب الصوم المؤقت عمَّا أحلَّ الله من الطيبات المتعلقة بالبطون والفروج إلى فريضة الصوم المؤبد عن محارم الله، غير أن التعبير بالنهي عن الأكل سِرُّه أن الطعام هو المقصود الأول للإنسان من امتلاك المال، وإلَّا فإن النهي يتناول جميع التصرفات التي تُنفق فيها أموال الناس بالباطل، ولو لم تكن أكلاً وطعاماً.

إن الآية تنهى عن أكل الأموال بالباطل الذي يظهر في صورة الحقِّ شكلاً؛ فإن الإدلاء بها إلى الحكام، وتزويرَ البَيِّنات والشهادات، أو بالرشاوى والإتاوات، يُظهرها كما لو كانت حقوقاً لآكليها، مع أن حكم القضاة لا يُحلُّ حراماً، ولا يُحَرِّمُ حلالاً؛ إنما يقطع الخصومات في الدنيا، ولكنه في الآخرة قطعةٌ من النار، فمن شاء أخذها، ومن شاء تركها؛ لأن بعضهم قد يكون أَلْحَنَ بحجته من بعض، أو كان ممن لا يشفق من لعنة الله للراشي والمرتشي والرائشِ بينهما.

إن القرآن الكريم قد توعد الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمناً قليلاً بقوله: ".. أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " البقرة (174)

كما توعد الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً بأنهم إنما يأكلون في بطونهم ناراً، وسيصلون سعيراً؛ كما في الآية (10) من سورة النساء.

فإذا ذهبنا إلى الربا وجدناه الذنبَ الوحيدَ الذي أعلن فيه الجبَّار جل جلاله الحربَ على آكليه في القرآن، وهو يشمل كذلك مُوكِلَه وكاتبَه وشاهديه، وهم سواء في هذه الموبقة، ماداموا مُصِرِّين على هذا الحِنْث العظيم، ولم يتقوا الله، ولم يذروا ما بقي من الربا، فكيف بالذين يأكلونه أضعافاً مضاعفةً؟!!

والسؤال هنا: هل توعد القرآن الكريم المفطر في رمضان بما توعد به هؤلاء المجترئين على أكل أموال الناس بالباطل؟!، وما قيمة الصيام إذاً، حتى لو صاموا، إذا كانوا يُمسكون عمَّا أحلَّ الله، ويفطرون على ما حرَّم الله؟!!.

إن هناك ذنوباً كثيرةً تُرتكب بالجوارح الأخرى غير الأمعاء، وهي أشدُّ إثماً من المفطر في رمضان، ألم يخبرْ عن المنتهكين أعراض إخوانهم بِالغِيبةِ ونحوها أنهم كمن يحبُّ أن يأكل لحم أخيه ميتاً؛ كما في سورة الحجرات (12)، وإن الفرق هائل بين من يأكل طعاماً في رمضان وقد يكون مشفقاً من الافتضاح، ومن يأكل لحم شقيقه المتوفى وهو محبٌّ، أيْ مستطيبٌ مستلذّ!!.

ألم يَذُمَّ الله جلَّ جلاله المنافقين من الرعب واليهود الذين قالوا: آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم؛ بأنهم سمَّاعون للكذب أكَّالون للسُّحت، كما في سورة المائدة (41، 42)، وظاهره المساواة بين سماع الكذب والمحرمات وأكلِ السحت، وهو كلُّ حرامٍ يَسْحَتُ صاحبه بالعذاب، وقد خاب من افترى.

ومن المعلوم أن اليهود قد أخذوا الربا، وقد نُهُوا عنه، وأكلوا أموال الناس بالباطل، حتى إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، ويكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، ولبئس ما كانوا يصنعون!!، ولا شكَّ أن ذلك أنكى من الفِطْر في رمضان على مباحاتٍ، حَرُمَتْ مؤقتاً في أيام معدودات، ولكنَّ ذلك غير مستهجنٍ ممن اعتدوا في السبت للحرمان من الحيتان، فَلُعِنوا على لسان داوود عليه السلام، فقيل لهم: كونوا قردةً خاسئين، ثم لُعِنوا على لسان عيسى بنِ مريم، فَمُسِخُوا خنازير؛ لمَّا أحسَّ عيسى منهم الكفر بعد نزول المائدة من السماء، بناءً على طلبهم وإصرارهم، وقد تأذَّن ربك ليبعثنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا، فهم وأمثالهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم، ويقال لهم: كلوا وتمتعوا قليلاً؛ إنكم مجرمون، بل قال الله جل وعلا لنبيِّه عليه الصلاة والسلام: " ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " الحجر (3)

وعلى ذكر المتاع والشهوة الغريزية أذكر هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن زنى الجوارح، فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه الكلام، واليد تزني، وزناها البطش، والرِّجْل تزني، وزناها المشي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، ولذلك فإن الصائم حين يرتكب الجرائم بتلك الجوارح لن يناله من صومه إلَّا الجوع والعطش، ولن يزداد من الله إلا بُعْداً.

أما نحن –المؤمنين- فإن صيامنا وتقوانا يفتح الله به علينا بركاتٍ من السماء والأرض، فنأكل من فوقنا، ومن تحت أرجلنا، ثم يقال لنا يوم القيامة: " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " الطور (19)، المرسلات (43)، " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ " الحاقة (24)، فالجنة أُكُلُها دائمٌ وظلها، وفيها فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحُورٌ عينٌ، كأمثال اللؤلؤ المكنون، أو البَيْضِ المكنون، أو الياقوت والمرجان، ورضوانٌ من الله أكبر، وأعظم منه لذة النظر إلى وجه الله تعالى.

 

 والحمد لله الكبير على ما في الصوم من الخير الكثير

 




- انشر الخبر -