تفسير سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 78 - 80].
الغَرَض الذي سِيقَتْ له هذه الآيات: هو تثبيتُ فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرير رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث لم يكن صلى الله عليه وسلم بِدْعًا من الرسل، وبيان أن الله يفعل ما يشاء، وأنه قد يعطي الصغير ما لا يعطيه لمن هو أكبر منه؛ حيث مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ يدعوهم سرًّا وجهرًا وليلًا ونهارًا؛ فلم يؤمن به إلا قليل، وهو أحد أولي العزم من المرسلين، ومع ذلك مكَّن لداود وسليمان وآتاهما الملك والنبوة، وهما ليسا من أولي العزم، كما فهَّم سليمان ما لم يُفهمه أباه داود.
وفي هذا كله تطمين لخاطر رسول الله صلى الله عليه سلم وتثبيت لفؤاده صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين.
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: بعد أن ذكر الله عز وجل أنه استجاب لعبده نوح عليه السلام، فنجاه من أعدائه المكذبين وأنه أغرقهم أجمعين، ليواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذكر قصة داود وسليمان في شأن الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، فحكم داود على أصحاب الغنم بحكمٍ بناه على اجتهاده، وفهم سليمان القضية، وهو لا شك دون أبيه داود؛ ليقرر عز وجل أن المزيَّة لا تنافي الأفضلية، وأنه تبارك وتعالى قد يعطي المفضول ما لا يعطيه لمن هو أفضل منه، ولا يكون ذلك غضًّا من فضل الأعلى، وكأنه يقول لرسوله وسيد خلقه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: اصبِر على أذى قومك لك، واعتبِر بقصة داود وسليمان اللذين مكن الله لهما في خلقه وأعطاهما من السلطان ما لم يعطِه لنوح أبي كُبُر النبيين، ولا لمحمد الذي فَضَّله الله على جميع الأنبياء والمرسلين، وقد نبه الله إلى ذلك في مواضعَ كثيرة من القرآن الكريم، كما قال عز وجل في سورة ص: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17] إلى قوله عز وجل: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 39، 40].
وقد نصب ﴿ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ عطفًا على قوله عز وجل في الآية السادسة والسبعين: ﴿ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ ﴾.
ومعنى ﴿ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ﴾؛ أي: يقضيان في شأن الحرث.
وقوله: ﴿ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ﴾؛ أي: انتشرت فيه غنم القوم ليلًا بلا راعٍ فأفسدَتْه؛ إذ النَّفَش - بفتح النون والفاء - هو انتشار الغنم أو الإبل أو غيرهما من الدوابِّ المملوكة، في زرع قوم فترعاه وتفسده على أهله، ولم يَرِد حديث صحيح ولا خبر ثابت يبين حقيقة حكم داود وسليمان، والظاهر أن داود حكم فيها بحكم، وأن سليمان عندما علم بحكم أبيه فيها أظهر أنه لو كان هو الحاكم فيها لحكم بغير ما حكم أبوه عليهما السلام، فحكَّمه أبوه فيها، ولا شك أن حكمهما كان باجتهادٍ مِن كل واحد منهما، وقد أثنى الله عز وجل على حكم سليمان، وأنه هو الذي فَهِم القضية، ولم يوجه أي لوم لداود عليه السلام، بل أثنى عليه بقوله: ﴿ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾.
وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم بعض القضايا التي حكم فيها داود عليه السلام، ثم حكم سليمان حكمًا يُخالف حكم أبيه، والإشادة بحكم سليمان عليه السلام؛ فقد روى البخاري ومسلم - واللفظ للبخاري - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت امرأتان ومعهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالتْ لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، فقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمَتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصُّغرى))!
وقد أحسن الحسن البصري حيث قال: حمد سليمان، ولم يلم داود.
فقد قال البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام، في باب: متى يستوجب الرجل القضاء: وقال الحسن: أخذ الله على الحكام ألا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياته ثمنًا قليلًا، ثم قرأ: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]، وقرأ: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44] إلى قوله: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، بما استحفظوا: استودعوا من كتاب الله.
وقرأ: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79]، فحمد سليمان ولم يلُم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده"؛ اهـ.
وقوله عز وجل: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾؛ أي: وكان حكمهما بمرأى منا لم يخفَ علينا شيء منه، وقد أثنى الله عز وجل بهذا على داود وسليمان؛ حيث ذكرهما بصيغة الجمع المشيرة للتعظيم، وهما اثنان، ومن الأساليب العربية الفصيحة أن يذكر الواحد أو الاثنان ثم يذكر ضمير الواحد أو ضمير الاثنين بصيغة الجمع للتعظيم، كما ذكر عز وجل عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، فقال عنها وهي واحدة: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26] وقال هنا عن داود وسليمان: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾، (الفاء) عاطفة على (يحكمان)؛ لأنه في معنى الماضي، والضمير المنصوب للقضية المفهومة من الكلام أو للحكومة المدلول عليها بذكر الحكم، يعني: عرفنا هذه القضية وعلمنا الصواب فيها سليمان، ولم يُعلم أن دواد اعترض على حكم سليمان، بل أقره ورضي به ونفَّذه.
ولو وقعت هذه القضية في شرعنا، فقد ذهب الجمهور إلى أن ما أفسدته المواشي بالليل هو مضمون على أهلها؛ عملًا بهذه الآية، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن ناقته دخلت حائطًا فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار يكون على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل يكون على أهلها.
قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا الحديث وإن كان مرسلًا لكن حدث به الثقات، وتلقَّاه أهل الحجاز بالقبول، وبهذا قضى شريح؛ اهـ.
وقوله عز وجل: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ تقريرٌ لمزيد من الثناء على داود عليه السلام لدفع ما قد يتوهم من لحوق قصور لداود؛ حيث لم يفهم القضية، فبيَّن الله عز وجل أنه سخر مع داود الجبال، وذللها له تسبح إذا سبَّح، وكذلك سخر له الطير تسبح بتسبيحه، وهذه آية من الآيات العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على داود عليه السلام.
وقوله عز وجل: ﴿ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ لتقرير وتأكيد قدرة الله عز وجل على إنطاق الجمادات والطير، وهو الذي يجعل الجوارح تشهد يوم القيامة على ما ارتكبه أصحابها من الجرائم؛ كما قال عز وجل: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 19 - 21].
وقوله عز وجل: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾، هو آية أخرى ومِنةٌ عُظمى من الآيات التي منحها الله عز وجل لداود عليه السلام؛ حيث أَلَان له الحديد وصيَّره كالعجين في يده، وعلَّمه أن يصنع من الحديد دروعًا وقمصانًا وأغطية للرأس؛ ليلبَسَها المحاربون فتَقِيهم رماح أعدائهم، وتدفع عنهم شرور سهامهم وسيوفهم كأنها أقمشة، فتقي رؤوسهم وأجسامهم؛ حيث قال الله لداود: ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ [سبأ: 11]؛ أي: اعمل الدروع سابغات لا يصل إلى جسم المقاتل منها شيء من سهام أعدائه أو رمحاهم أو سيوفهم، ولا تجعل المسامير غلاظًا فتكسر الحلق، ولا رقاقًا فتتقلقل فيها، واجعلها على القصد وقدر الحاجة.
وقوله تعالى: ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾؛ أي: لتحميكم وتحفظكم وتقيكم من سيوف أعدائكم ورماحهم وسهامهم.
وقد قرأ حفص وعبدالله بن عامر قارئ أهل الشام: ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ ﴾ بالتاء المثناة.
وقرأ شعبةُ ﴿ لِنُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ بالنون.
وقرأ الباقون ﴿ لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ بالياء المثناة التحتية.
فعلى قراءة حفص وابن عامر الفاعل ضمير يعود على صناعة اللبوس.
وعلى قراءة شعبة الضمير المرفوع يعود على الله عز وجل.
وعلى قراءة الباقين: أي: الله عز وجل، أو داود عليه السلام.
وقد ذكر الله عز وجل هذه الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة التي منحها لعبده ورسوله داود عليه السلام الذي آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء في غير موضع من كتابه الكريم؛ حيث قال عز وجل في سورة سبأ: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10، 11]، وقال عز وجل في سورة (ص): ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17 - 19].
وقوله عز وجل: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ استفهام، والمراد به الأمر؛ أي: فاشكروني على ذلك، وإنما أورد الأمر بصيغة الاستفهام للمبالغة أو التقريع.
قال علماء المعاني: وقوله: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ أدل على طلب الشكر من: فهل أنتم تشكرون؟ ومِن: أفأنتم شاكرون؟ لأنه لما كانت (هل) مختصة بالتصديق وتخليص المضارع للمستقبل، قوي دخولها على الجملة الاسمية؛ لأن دخولها على الفعلية يكون لطلب تحصيل الشيء في المستقبل، فإذا عدل عن الفعل معها كان ذلك لإبراز ما سيحصل في موضع الحاصل، وهو أبلغ؛ لأنه أدل على كمال العناية بحصوله، بخلاف ما لو عبَّر بالفعل مع هل أو عبر بالهمزة بدل هل؛ لأن الهمزة ليستْ مختصة بالتصديق، بل تأتي لطلب التعيين وللتصديق.
الأحكام:
1- يجب على أهل الماشية حفظها ليلًا.
2- جواز الاجتهاد من الأنبياء.
3- رفع الحرج عن المجتهد الأمين إذا لم يفهم القضية.
4- مشروعية اتخاذ الصناعات وبذل الأسباب الموصلة إلى الخير.
5- لا يجوز لمسلم أن يطعن على الصناع أو ينقص من قدرهم.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/144408/#ixzz6jydtSED0