إذ تنقض أمريكا غزلها أنكاثا! أحمد الشيخ


تم النشر 13 يناير 2021


عدد المشاهدات: 1063

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


ما أكثر ما تقذف به وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي هذه الأيام، من مقالات وتحليلات لاقتحام مقر الكونغرس الأمريكي البرج العالي للديمقراطية الأمريكية!

يحار المرء بين ما يطرحه المنافحون عن الديمقراطية الأمريكية وحيويتها وقدرتها الدينامية القارة في بنيتها التاريخية المتصلة بالموروث الثقافي والاجتماعي الأوروبي، وما يحكمها من ضوابط تؤمن لها التوازن والرجوع عن الانحراف ومعالجة الخلل، وبين أولئك الذين يقولون إن ما حدث في البرج العالي يحمل في ثناياه ما هو أعمق من أزمة عابرة للديمقراطية، وآلياتها الليبرالية التنويرية الحداثية أو ما بعد الحداثية.

إنها أعراض أزمة أخلاقية اجتماعية وثقافية مركبة، تنخر في عمق أعماق مجتمع لم يمض على استقلاله إلا أقل من 250 عاما.

ولا ريب أن المفكرين والكتاب الأمريكيين أقدر على سبر أغوار تلك الأزمة ممن يراقبون الأحداث من الخارج، مهما أوتوا أو توفر لهما من المصادر ووسائل الاتصال والمعرفة.

لذلك، فإن ما يهمني هو كيف سنستوعب، نحن في العالم العربي، أبعاد ما حدث في أمريكا سيدة العالم، التي جعلت منها أنظمتنا، وحتى بعض أناسنا، قَدَراً نتعبده من دون الله؟ فهل سنستخلص العِبر مما حدث، ونطرح الأسئلة التي يستوجب طرحها العقل والمنطق السليم؟

 

كيف سنستوعب، نحن في العالم العربي، أبعاد ما حدث في أمريكا سيدة العالم، التي جعلت منها أنظمتنا، وحتى بعض أناسنا، قَدَراً نتعبده من دون الله؟ فهل سنستخلص العِبر مما حدث، ونطرح الأسئلة التي يستوجب طرحها العقل والمنطق السليم؟


نعم ما زالت الإمبراطورية الأمريكية هي القوة العسكرية الأعظم في العالم، وإن كانت تلك القوة تجد اليوم في روسيا والصين من ينافسها عسكريا واقتصاديا وتحسب له ألف حساب. ومع ذلك، فلا بد أن نسأل أنفسنا: هل أن أمريكا حقا قدر مقدور ينبغي للأمة أن تربط نفسها به برباط مقدس لا فكاك منه؟

ها نحن من محيطنا إلى خليجنا، مع أن هذه النسبة يتنازعها الوهم والواقع بما يكاد يَجُبُّ تاريخها، نستنجد بأمريكا كلما استشعرنا خطرا من قريب أو بعيد. فما تَسِمُهُ لنا على أنه عدو لدود يصبح مسطورا لدينا في لوح محفوظ، أكان متخيلا بوهم تدسه أمريكا في أنفسنا وعقولنا، أو كان حقيقيا يمكن لنا أن نواجهه من دون أمريكا، لو أردنا وعرفنا قدراتنا.

وما تزفه لنا أمريكا على أنه صديق وحليف نضمه في سويداء قلوبنا ونجعل منه حليفا نستصرخه، وما هو بمصرخنا، فننتظر، وقد عميت علينا الأنباء، أن يحمينا من ذلك العدو المتخيل أو الحقيقي على السواء، ولو كان هذا المُسْتَصْرَخُ شيطانا طارئا عابرا مغتصبا، فنشد إليه الرحال ونتوسل عند أعتابه المخضبة بدماء أهلنا!

تقول أمريكا هذه القطعة من الأرض لكم، فنتراقص فرحا مثل أطفال نثرت على رؤوسهم الحلوى أو اللُّعَب، وربما تقتتل قبائلنا دفاعا عن المضارب التي كتبتها لنا أمريكا.

وتقول لنا أمريكا هذه القطعة من الأرض ليست لكم، فنسلخ عنها هويتنا كما تسلخ الأفعى جلدها، كأن لم يدرج آباؤنا على تلك الأرض ويخضبوها بدمائهم، بل ربما ينفيها بعضنا من الوجدان والذاكرة، ويستزرعون مكانها وعود أمريكا الموهومة.

نتخاصم بطلب من أمريكا ومن دونه، فلا نصطلح إلا أذنت أمريكا وحقت. تقول ادفعوا فندفع، واسكتوا فنسكت، وهكذا دواليك!

هذه أمريكا التي نقدس، "تنقلب" على نفسها اليوم، بعد أن كانت تدبر الانقلابات خارج شواطئ محيطيها الكبيرين. أوَ ليس في هذا آية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟

أمريكا التي تعهدت بنشر الديمقراطية على طريقتها في العالم تنقض اليوم غزلها أنكاثا، فكيف للناس أن يقبلوا ببضاعتها المزجاة؟


أمريكا التي تغنى المهاجرون الأوائل والرؤساء اللاحقون بها مدينة متلألئة على رأس جبل، وطافت بهم فيها أحلام المال والثراء، تكاد تطفئ شعلتها المتلألئة بنفسها وتحول حلمها إلى كابوس.

أمريكا التي تعهدت بنشر الديمقراطية على طريقتها في العالم تنقض اليوم غزلها أنكاثا، فكيف للناس أن يقبلوا ببضاعتها المزجاة؟



هل ستكلف الأنظمة ومراكز الفكر والشعوب نفسها عناء مراجعة تاريخ أمريكا، كي ندرك لماذا آلت أمريكا إلى ما هي عليه اليوم؟

لم ينكر أولئك الغزاة "المهاجرون" الأوائل من عتاة العرق الأنجلوساكسوني مطامعهم الحقيقية وهم يحطون على شواطئ بوسطن: الحرية بلا رقيب ولا ضمير من أجل جمع الثروة بعرق العبيد ودماء السكان الأصليين الذين عَفُّوا عليهم فأصبحوا كأن لم يكونوا.

ونسل أولئك الغزاة المستوطنين هم من يطلق عليهم اليوم اسم السكان البيض الأنجلوسكونيين (wasp). وهم يؤمنون إيمانا لا يتزحزح بتفوق العرق الأبيض، فلا حق قبل حقهم، ولا يتساوى معهم غيرهم، يشبعون حتى التخمة ثم يأكل السود والملونون من الفضل المتبقي، يشربون ويسكرون والآخرون يطوفون عليهم خدما غير مخلدين. أمريكا لهم وحدهم خالصة من دون الخلق على أرضها، بل كوكب الأرض كله سوق لشركاتهم وميدان لجندهم، فويل لكل من يرفع رأسه ليقاوم.



كيف لنا إذن أن نستأمن هؤلاء على حاضرنا وعلى أنفسنا ومستقبل أجيالنا وأموالنا؟ ومع أننا نحن من يستجيرون، فما مصيرنا إلا كمصير من أجار أم عامر ما لم نعد إلى رشدنا.

ترى لو كان أولئك الذين اقتحموا مبنى الكونغرس من السود أو المسلمين هل كان عدد القتلى سيقتصر على خمسة فحسب؟ وهل كانت الشرطة ستتحفظ كما فعلت هذه المرة في استعمال العنف ضد المقتحمين؟ فما امّحت من أذهان الناس بَعْدُ، صور المظاهرات التي قامت بعد مقتل الأمريكي الأسود "جورج فلويد" خنقا تحت ركبة شرطي أبيض. بل إن بعضهم يقول إن هؤلاء الذين اقتحموا الكونغرس محتجون مسالمون، وقلة منهم يساريون مندسون ليخربوا. أي استخفاف هذا بعقول الناس، وأي سيولة للقيم والأخلاق!

 

ترى لو كان أولئك الذين اقتحموا مبنى الكونغرس من السود أو المسلمين هل كان عدد القتلى سيقتصر على خمسة فحسب؟ وهل كانت الشرطة ستتحفظ كما فعلت هذه المرة في استعمال العنف ضد المقتحمين؟


قد لا تتكرر حادثة اقتحام برج الديمقراطية الأمريكية، لكن العلل التي يعاني منها المجتمع لن تبرأ، ولن يزيدها الانقسام الحاد للأمة الأمريكية إلا سوءاً، فتنتخب أمريكا في قادم أيامها من هو أسوأ من دونالد ترامب، فلا يكتفي ذلك المنتَظَر العتيد بمنح إسرائيل القدس والضفة الغربية والجولان، بل سيطالبنا بأن نعيد لأهل خيبر حقوقهم، وبأن نُطَبِّع ونكشف لهم كل عوراتنا، وبأن نخلي الأرض لتقوم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات وما بعدها، وأغلب الظن أننا سنفعل ما دامت شعوبنا مغيبة عن دوائر الفعل والقرار.

هذه أمريكا الأنغليكانية المتصهينة التي تنتظر عودة المخلص المسيح، ليقود المؤمنين في المعركة الفاصلة "الهيرمغدون"، فيفني أعداءه حتى من اليهود وغيرهم من الغويم الأميين. وهذا رئيسها الجديد يتفاخر بصهيونيته أبا عن جد، فماذا ننتظر ولماذا تعمى قلوبنا التي في الصدور؟!

هذه أمريكا التي تقول لن نسمح لأي منكم أن يبلغ من القوة ما يتيح أن ترف جفوننا فتخاف منها إسرائيل، بل ستبقون تحت سياطها تجلدكم في سوريا والعراق وفلسطين وفي تخوم المغرب العربي وصحاري السودان وأقاصي مصر بصعيدها وبحرها، وبعضنا ينام ملء جفونه ظانا أنها ستحميه!

ستنشغل أمريكا بنفسها كثيرا فهلا وجدنا لأنفسنا متنفسا كي ننشغل بإصلاح أحوالنا ومكاننا في عالم لا يحترم إلا القوي حتى وإن كان فاجرا مثل دونالد ترامب!




- انشر الخبر -