فانتازيا في زمن الهزيمة هذه المرة! أحمد الشيخ


تم النشر 30 ديسمبر 2020


عدد المشاهدات: 820

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


هذا مقال من باب الفانتازيا أو الخيال العلمي، إن شئتم، كتبته قبل عشر سنوات في فورة ثورات الربيع العربي، وما حملته من أحلام حتى في خيال كهل مثلي آنذاك، وهو يخنق الستين. تذكرت يومها رحلة جدي، وقد ناهز الخامسة والثمانين، لأداء فريضة الحج عام 1941، أي قبل احتلال فلسطين. يومها حمل القطار جدي ورفيقه الأصغر من طولكرم إلى مصر، ومن ميناء السويس إلى جدة عبر البحر الأحمر.

آه يا لهف نفسي! حتى الخيال أصبح حراما، بل تحول قطار ذلك الحلم إلى كابوس ينغل بالطارئين وحاملي حقائبهم من المستسلمين! لكن لا بأس من إعادة نشر ذلك الحلم، من باب المقاومة بأضعف الإيمان.

تسلل سلطان السلاطين إلى جفوني وأنا أتخيل القطار القادم من سيناء، وكل أولئك الحجاج العائدين من الديار المقدسة مرورا بمصر، وهم يعانقون ذويهم المستقبلين وقد فاضت عينا جدي، الملقب بآخر الدراويش، بسبب سجيته الفطرية وتقواه وزهده، إذ يضم ابنه الوحيد. وفي ما يرى النائم، وجدتني أنا الآخر وسط محطة قطارات حديثة في جدة، منتظرا الإعلان عن قيام رحلة قطارنا السريع المسمى بالرصاصة (trans Arab bullet train)، إذ تتجاوز سرعته القصوى 400 كيلومتر في الساعة.

بشر بكل الأزياء يطالعون شاشات عريضة تعرض معلومات وتصور مسار رحلات قطارات الرصاصة من جدة إلى الخليج، وشرق الجزيرة وجنوبها إلى اليمن، ومن جدة إلى العراق وبلاد الشام فساحل المتوسط إلى سيناء، ثم غربا مع ساحل المتوسط مرة أخرى إلى ليبيا فتونس فالجزائر فالمغرب فموريتانيا. وعلى الشاشات أيضا يتفرع الخط في مصر لينطلق جنوبا إلى السودان.

جمع غفير ينتظر. بجانبي حاج موريتاني يتلفع بدراعيته وفائض قماشها، وتتلفع زوجته بثوبها، الذي يقولون إنه هو نفسه ما كانت تزهو به ولادة بنت المستكفي، وقد اكتوى قلبها بحب ابن زيدون. وإلى جانب ولد الشنقيطي، مغربي بجلابيته وقلبه يكاد الشوق يطير به إلى مراكش، وبعدهما تونسي ببرنسه يصغي بتسليم لأوامر زوجة يبدو أن لها كلمة الفصل. وليبي بقلنسوة حمراء وبجانبه مصري صعيدي بجلابيته ذات الأكمام العريضة، وهو يطيب خاطر زوجته الملتاعة إلى مصر والولد ويقول: "يا حاجة القطر فاضله ساعة واحدة ويتحرك وبعدها عشر ساعات ونكون في مصر".

ثم أهل بلاد الشام من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وبعضهم يخفي عبوس دائم طيبتهم وكرمهم الأصيل. وأهل الجزيرة والخليج والعراق، نساء ورجالا، ينتظرون القطار المتجه إلى بلاد الشام فمصر فالمغرب العربي.

دفعني فضول فسألت عراقيا يضع عقالا غليظا من الشعر، لماذا ينتظر هذا القطار وخط العراق من الجهة الأخرى، فقال: "يا آبي نريد نقدس الحجة ونزور الأقصى قبل ما نعود للأنبار". وقالت زوجته السمراء المملوحة: "بخاطرنا والله من زمان نصلي في القدس". وكذلك قال جزائري شاب، ومعه زوجة لم يترك صبح وجهها لأحد غيرها من النساء نصيبا من الحسن.

ثم قاطع حديثنا إعلان عبر شاشات العرض في المحطة يقول إن القطار سينطلق بعد ساعة بالتمام والكمال، وستكون أول محطة يتوقف فيها هي محطة مدينة الزرقاء الأردنية على بعد 1300 كيلومتر من جدة، وسوف تستغرق الرحلة قرابة أربع ساعات.

كنت أغالب نفسي عند حافة حادة بين الوهم والحقيقة، عندما شدني سوداني يضع عمامة أنصارية فوق جلباب تنتشر عليه جيوب على الصدر وعلى الظهر، فإن رأيته من بعيد لا تدري أهو مقبل أم مدبر.

كان عثمان الطاهر زميلا في الكويت، ما وقعت عيني عليه منذ ربع قرن. تعانقنا على عادة السودانيين، يربت كل منا بلطف على ظهر الآخر، تعبيرا عن شوق وود وجميل ثناء جبل عليه السودانيون. قال عثمان بعد سيل متواصل من تعبيرات الود: هل أنت مسافر على القطار بعد ساعة؟ ولم ينتظر إجابتي فمضى قائلا: سنتوقف في القدس لنصلي في الأقصى.

تذاكرت مع عثمان أيام الكويت ومتاعب السفر برا وسألته: أين الطابور الطويل أمام موظف الجوازات؟ فأعادني إلى حلمي وقال: "لا حدود من رأس مسندم في عمان شرقا حتى موريتانيا غربا ومن إسطنبول شمالا حتى الخرطوم جنوبا، فنحن في عصر ما بعد الثورات يا زول".

وعادت الشاشة لتنبهنا إلى أن القطار سينطلق بعد ربع ساعة، وأن الأبواب فتحت الآن ليأخذ المسافرون مقاعدهم.

تنساب وراء قطارنا هذا أربعون عربة في كل واحدة أربعون مسافرا، وكل مقصورة مجهزة بآخر مستلزمات التكنولوجيا التي تبقي المسافرين على اطلاع دائم على مسار رحلتهم، وتقدم لهم معلومات عن كل بلد أو مدينة يمر بقربها القطار.

جلس بجانبي قبل تحرك القطار شاب يسترسل شعره اسود حتى حلمة أذنه. وضع حقيبته اليدوية في الرف العلوي، واستبقى معه جهاز كومبيوتر عليه صورة عربي ملتح ويعتمر عمامة، وتحتها كلمة "الخوارزمي".

كاد ذلك يخرجني من حلمي، فكل الحواسيب التي رأيتها قبل الآن تمهرها إما التفاحة المخشومة، أو الحروف اللاتينية للشركات الغربية الصانعة. ولما رآني جاري الشاب أحملق في حاسوبه مشدوها مد لي حبل نجاة، وأبقاني في حلمي حين قال: "الم تر حاسوبا يحمل هذا الاسم قبل الآن؟ نعم هو من صناعة عربية تماما".

أردت أن أطرح على الشاب أسئلة كثيرة يثيرها فضول الصحفي، لكن الإعلان عن تحرك القطار الرصاصة بعد ثلاثين ثانية أوقفني. وانطلق القطار وتسارع عابرا نفقا طويلا خارج المدينة، ولما خرج منه وسط الصحراء خلته يكاد يطير من شدة سرعته.

عدت إلى جاري الشاب وفتحت معه موضوع حاسوبه، فقال إنه من إنتاج مركز أبحاث التكنولوجيا والفضاء العربي الموجود في جبال أطلس في المغرب. وقبل أن أستوضح عن المركز، سألته من أين هو؟ فقال إنه من جدة نفسها وهو يعمل في المركز في أبحاث هندسة المواد والتعدين، وكان في إجازة وأراد أن يعود هذه المرة بالقطار، كي يرى وطنه الأكبر بأم عينه.

وإذ يغذ "عقبة بن نافع"، وهذا اسم قطارنا، الخطى كنت أشاهد من النافذة قطارات شحن وركاب ذاهبة آيبة، وهي تنقل دونما عائق الأفراد والسلع إذ تنتشر على جانبي السكة الاستراحات والمصانع، وفيها كل العرب بأزيائهم المتنوعة.

ورأيت، إذ خفت سرعة القطار لدى مروره قرب مدينة عرعر، حقلا شاسعا من المرايا اللامعة فسألت جاري الشاب ما ذاك؟ فقال إنه إحدى محطات الطاقة الشمسية التي تغذي الجزيرة وبلاد الشام والعراق بالكهرباء.

ثم جاءني صوتها عذبا تسألني ماذا أريد للغداء والشراب. هي مصرية وزميلها فلسطيني وهما من أفراد طاقم الضيافة. وما كدنا نفرغ من غدائنا، حتى أعلن قائد القطار أننا سنعبر من السعودية إلى الأردن بعد نصف ساعة ومن ثم لن تستغرق الرحلة إلى الزرقاء إلا أقل من ساعة فيتوقف القطار للمرة الأولى، حتى يتاح للمسافرين إلى الشام وتركيا أن يركبوا قطارا آخر. أما "عقبة بن نافع" فيعبر بنا غور الأردن ليتوقف في القدس، إلى حيث شد آلاف من الحجيج الرحال.

كنت أود أن أواصل إلى دمشق وإسطنبول ثم أعود إلى القدس، لكن الشوق إلى الأقصى بعد الحج غلبني.

رأيت العراقي الأنباري وزوجته السمراء المملوحة يذرفان دموع فرح لما نزلا من العربة في القدس، وهي تستحثه أن يتحرك بسرعة كي يصليا في الأقصى.

كانت أمامي ساعة واحدة لأصلي ثم أعود لينطلق عقبة بن نافع في رحلته، وكذلك فعل جاري الشاب من جدة. أما صديقي عثمان فقال إنه سيمضي هنا بضعة أيام قبل أن يواصل إلى الخرطوم، فوعدت أن أزوره في رحلة العودة.

هبط القطار إلى السهل الساحلي واستدار باتجاه الجنوب الغربي، ثم عبر النقب بسرعة، وإذ نحن بعد نصف ساعة أو أقل في غزة، فتوقف دقائق فنزل مسافرون وصعد آخرون.

وإذ نعبر سيناء، تحولت مساحات شاسعة من الصحراء التي عهدت، إلى أرض تتدثر بالخضرة وتتمايل فيها سنابل القمح مع الريح جذلى. لقد مدت أنابيب المياه من النيل لتروي الحقول ولتسقي النجوع والقرى. وددت لو أن "عقبة" يتوقف فأعدو، وأنا الكهل الآن، بين السنابل كما كنت أفعل وأنا طفل في جماعين من أعمال نابلس، حيث ولدت وولد ابن قدامة صاحب "المغني" في الفقه الحنبلي. غير أن محطة "عقبة" القادمة هي السويس مرققة أو "الصويص" مفخمة كما كان يقولها جدي الراحل.

في السويس، صعد إلى مقطورتنا مصري ناهز منتصف عقده الرابع من العمر، جلس قبالتي ولاحظت أنه يرتدي زيا يحمل شعار القطار الذي يقلنا. ولما تحرك القطار سألته فقال إنه مهندس صيانة في سكة قطارات الرصاصة، وإنه في رحلة تفتيشية.

وإذا ينطلق "عقبة" نحو القاهرة، لاحظت قيام بلدات ومدن صغيرة ذات تصميم عصري ما كانت قبل اليوم، فسألت صاحبنا المهندس، فقال إن عدد سكان القاهرة التي كنت أعرف يتناقص الآن، إذ إن امتداد التنمية والتصنيع إلى الأطراف، جعل الناس يفضلون العيش هناك قريبا من أماكن عملهم وبعيدا عن الازدحام.

يتوقف القطار في القاهرة لساعة كي يتزود بالمؤن ويستبدل المسافرين. هنا محطة كبرى صممت مثل محطات أفلام الخيال العلمي. كل شيء يعرض على الشاشات، وكل معلومة ترد تجدها أمامك على شاشة كومبيوتر تلمسها فتجب.

غير أن ذلك كله لم يغير من روح الدعابة المصرية، فإذ نزلنا من القطار مررت بجانب كشك يبيع طعاما لمن تشتهي نفسه شيئا من المأكولات الشعبية، فقال صاحبه: "تفضل يا بيه وجرب الكشري بتاع زمان اللي كنا نأكله ونطلع على رؤوس كتافنا من الخوف منهم. هم راحوا والكشري الأصيل بقي".

جلسنا أنا والشاب صاحب الشعر الأسود من جدة على مقعدين عاليين في الكشك، ولم نخيب ظن المصري الطريف ولم ننظر إلى رؤوس أكتافنا، بل إلى شاشة تلفزيونية تعرض نشرة أخبار جاء فيها أن تجمع الدول العربية استعمل حق النقض الفيتو في مجلس الأمن ليسقط مشروع قرار بفرض عقوبات على اليابان والصين.

وانطلق عقبة غربا باتجاه الإسكندرية، والمسافة القصيرة التي قطعها في نصف ساعة أو أقل، كانت عامرة بالنجوع والمزارع والخضرة على امتداد البصر، فسألت المصري المهندس المفتش فقال، إنهم أقاموا عشر محطات لتحلية مياه البحر باستعمال طاقة الشمس.

لم نتوقف في الإسكندرية، إذ يتوقف القطار القادم بعدنا. وانطلقنا وسط مروج مترامية من الخضرة إلى مرسى مطروح، حيث توقف القطار وأخذنا نجد ريح المغرب العربي في اللباس وفي اللسان.

وإذ ننطلق عبر ليبيا ظل هسيس "عقبة" يمتزج مع صوت أمواج المتوسط، بما تختزنه من ذكريات وثقافة وحضارة. طبرق وبنغازي وسرت فمصراتة وطرابلس. كان أمامنا ساعة قبل أن نواصل السير من طرابلس إلى تونس، فخرجت غير بعيد من المحطة، فسمعت عبر مكبرات الصوت في المآذن أن الليبيين يودعون اليوم أحد رؤسائهم السابقين، ويذكرون إنجازاته في ميادين التنمية والحكم الرشيد.

أما تونس، فها هي أكثر اخضرارا مما تغنينا به. وكم وددت لو أني أستطيع أن آخذ القطار المحلي إلى القيروان، لعلي أصلي في مسجد عقبة بن نافع، الذي عبر إلى هذه الدنيا على صهوة حصان، وليس على قطار يحمل اسمه، وسرعته مثل سرعة البرق.

صعد إلى القطار رجل بزي شرطي، فأخرجت من جيبي هويتي وأعددت نفسي للسؤال، فقال الشاب السعودي صاحب حاسوب الخوارزمي: "ماذا تفعل؟ إنه مسافر مثلنا ولا يحق له أن يسأل عن هويتك". لقد أعادني بهذا إلى حلمي الجميل، فإذا نحن نمر بقرطاج ونعبر إلى قسنطينة في الجزائر، فتذكرت ذلك الجزائري وزوجته اللذين ما زالا في القدس، وأنا ابن القدس، بعد أقل من اثنتي عشرة ساعة، في مدينتهما.

عبرنا أراضي الساحل الجزائري الخصيبة المتفجرة بالحياة ثم إلى المغرب على طول الساحل، فتوقف القطار في سبتة العائدة إلى الوطن، ثم طنجة فالدار البيضاء فالرباط وبقية مدن ساحل الأطلسي، فإلى نواكشوط المزدهرة بعد فقر ينشد فحول شعرائها أجمل القصائد في حب هذه الديار العربية بصحاريها وجبالها وسهولها وفرسانها الذين أقسموا ألا يترجلوا ولو في مرابع الحلم.

وإذا بمنبه ساعتي يقطع علي حلمي فيوقظني لصلاة الفجر، لعلنا نعمل وندعو بالملايين أن تتحول أحلام الثورات إلى حقيقة، فيمر القطار عبر جناحي الوطن العربي، فيعود وطنا واحدا لا تفصله بؤرة سرطان، ولا يضن فيه أصحاب المال بمالهم على من لا مال عندهم فتتحول صحارينا إلى مروج.




- انشر الخبر -