تحلّ في هذه الأيام ذكرى مرور عشر سنوات على بدء "ثورات الربيع العربي"، ففي 17 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2010، أقدم شابٌّ تونسي، اسمه محمد البوعزيزي، على إضرام النار في جسده، احتجاجاً على سوء معاملة السلطات التونسية له. وعلى الرغم مما عرف عن أجهزة الأمن التونسية من غلظةٍ في التعامل مع المواطنين إبّان فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي، إلا أن الحدّة التي اتسم بها رد فعل البوعزيزي على ما لحق به من إهانة شكلت، في حدّ ذاتها، دليلاً على أن الإحساس بالقهر عند عموم التونسيين وصل إلى درجةٍ لا تُحتمل، وهو ما يفسّر ضخامة المظاهرات الشعبية التي اندلعت إثر هذا الحادث النادر، والمؤلم في الوقت نفسه، والتي راح نطاقها يتسع، إلى أن شملت معظم المدن التونسية، وانتهت بفرار بن علي إلى السعودية في 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
لو توقف ما جرى في تونس آنذاك عند حدود هذا البلد العربي الصغير، لكنّا إزاء ظاهرة محلية الطابع، تخص المجتمع والنظام السياسي التونسيين وحدهما. ولأن ما جرى راح يتكرّر، ويعيد إنتاج نفسه بصور وأشكال مختلفة في بلدان عربية أخرى، فقد بدا واضحاً أننا إزاء ظاهرة إقليمية أوسع، تخص العالم العربي دون سواه من دول جواره. وما هي إلا أيام قليلة، حتى كانت الشرارة التي أشعلها البوعزيزي في تونس قد انتقلت إلى مصر، ومنها إلى ليبيا واليمن والبحرين وسورية، بل وبدت في ذلك قابلةً للتمدّد والانتقال إلى العالم العربي كله. وما إن حل شهر مارس/ آذار من عام 2011، حتى بدا العالم العربي كأنه بركان يغلي، إذ راحت حممه المتفجرة تتطاير في كل الاتجاهات. ولأن مارس هو شهر الربيع، لم يكن مستغرباً أن تطلق وسائل الإعلام الغربية على ما يجري اسم ثورات أو انتفاضات "الربيع العربي"، فقد كانت حناجر الجماهير العربية المحتشدة في معظم الميادين العربية تصرخ مطالبةً بالخبز والحرية والكرامة الإنسانية، وكأنها مفردات أغنيةٍ قرّرت شعوب الأمة كلها أن تلحنها وتنشدها في وقت واحد، من دون سابق تنسيق أو إنذار. وحين بدأت رؤوس أنظمة الاستبداد والفساد في هذه المنطقة المهمة من العالم تتساقط، الواحد تلو الآخر. تصور كثيرون أن فجراً جديداً قد بدأ يبزغ، حاملاُ معه أملاُ في غدٍ أفضل تسوده الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل وبدا كأنه مجرّد سراب.
موجاتٍ تلو أخرى من القتل والتدمير والنزوح والهجرات والتشرّد والبؤس
اليوم، وبعد مرور عشر سنوات على "ثورة الياسمين" التونسية، وما أعقبها من ثورات "ربيع" لم يكتمل، يبدو مشهد العالم العربي أكثر بؤساً مما كان عليه في ديسمبر من عام 2010، في مختلف المجالات وعلى المستويات كافة:
على الصعيدين، السياسي والأمني: تمكّنت قوى الثورة المضادة في الداخل، بمساعدة قوى خارجية عربية وأجنبية، من الإمساك بزمام الأمور، محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وتمكّنت من تحقيق نتائج ونجاحاتٍ تباينت من حالةٍ إلى أخرى، ففي حالاتٍ قليلةٍ نجحت هذه الثورات المضادّة في التمكين لنظم حكم بديلة، بدت، في البداية، متماسكةً وأكثر قابليةً لتحقيق الاستقرار. ولكن سرعان ما تبيّن أنها بطش واستبداد وربما أكثر فساداً مما كانت عليه النظم القديمة، لكنها، في حالاتٍ أخرى كثيرة، لم تنجح إلا في بثّ تفجير النعرات القبلية والطائفية والمذهبية والعرقية، وفي إشعال الحروب الأهلية التي سرعان ما تحوّلت إلى حروبٍ بالوكالة لحساب قوى خارجية، بل وفتحت الباب أحياناً أمام تدخلاتٍ عسكريةٍ خارجيةٍ نجحت إما في تثبيت نظم الحكم التي ثارت عليها شعوبها، أو في بثّ مزيد من الفوضى وعوامل التفكّك والتفتيت والانهيار.
تحوّل العالم العربي، خلال السنوات العشر السابقة، إلى ساحة مستباحة للتدخلات الخارجية
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي: شهد العالم العربي، طوال السنوات العشر الماضية، موجاتٍ تلو أخرى من القتل والتدمير والنزوح والهجرات والتشرّد والبؤس. أما الدول النفطية الغنية التي نجت من ثورات الربيع العربي، فقد تم استنزاف ثرواتها ومواردها، إما في صفقات سلاح ضخمة، أو في دفع الإتاوات في مقابل تقديم الحماية لعروشها المهدّدة، أو في تمويل الثورات المضادة نفسها. ثم جاءت جائحة كورونا وما تبعها من انخفاض أسعار النفط لتزيد الطين بلة. وقد انعكس ذلك كله على المواطن العربي في كل مكان، في صورة ارتفاع نسب البطالة وتدهور مستويات المعيشة وازدياد معدلات الجريمة المنظمة، بل وفي سقوط طبقات اجتماعية بأسرها تحت خط الفقر.
وعلى الصعيد الثقافي والفكري: انغمست النخب الفكرية والسياسية التي كانت قد نجحت في تفجير ثورات "الربيع" في حملاتٍ لتبادل الاتهامات، حيث راح كل طرفٍ يلقي بمسؤولية الفشل على الطرف الآخر، المتهم بالعمالة أو بالكفر والإلحاد أو بخيانة العروبة والإسلام. لذا ظلّت هذه النخب، في معظمها، متقوقعة داخل خنادق فكرية، وعازفة عن إجراء مراجعاتٍ حقيقيةٍ لمواقفها السياسية والفكرية السابقة، تساعدها على استخلاص الدروس المستفادة من الأخطاء المرتكبة.
وعلى الصعيد الاستراتيجي: تحوّل العالم العربي، خلال السنوات العشر السابقة، إلى ساحة مستباحة للتدخلات الخارجية، فالقواعد العسكرية الأميركية ما تزال تنتشر في كل مكان في العالم العربي، على الرغم من كل ما يقال عن انسحاب القوات الأميركية وتراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط. وتمكّنت روسيا من بناء قواعد عسكرية في سورية ومن زيادة نفوذها في ليبيا. بل تحول العالم العربي كله إلى منطقة نفوذٍ تتنافس عليها دول الإقليم غير العربية، إذ أصبح لإيران وجود عسكري ونفوذ سياسي في كل من سورية ولبنان والعراق واليمن، وأصبح لتركيا وجود عسكري ونفوذ سياسي في سورية وليبيا والعراق. أما إسرائيل فلم تكتف بالإبقاء على معظم الضفة الغربية محتلة، وعلى قطاع غزة محاصراً، أو بضم الجولان السوري، وإنما راحت تمد نفوذها السياسي إلى الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، بالإضافة إلى نفوذها القديم في مصر والأردن، وتسعى إلى قيادة أكبر عدد من الدول العربية لمواجهة إيران ومحور المقاومة.
بعد عشر سنوات على "ثورة الياسمين" التونسية، وما أعقبها من ثورات "ربيع" لم يكتمل، يبدو مشهد العالم العربي أكثر بؤساً
الحقيقة الواضحة للعيان أن وضع العالم العربي أصبح أسوأ بكثير مما كان عليه عشية انطلاق ثورات "الربيع". ولذا من الطبيعي أن تثور تساؤلات عديدة، ليس فقط بشأن الأسباب التي أوصلت العالم العربي إلى هذه الحالة البائسة، وما إذا كانت "ثورات الربيع العربي" هي التي تسببت فيها، وإنما أيضاً حول المستقبل وما إذا كانت طموحات هذا العالم وأحلامه في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية قد انتهت وطويت صفحتها إلى الأبد. ويستدعي هذا الحال مجموعة ملاحظات وخواطر يمكن تلخيصها وطرحها على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بطبيعة المجتمعات العربية، فالاستبداد الذي يعاني منه العالم العربي ليس من النوع الطارئ أو الظرفي، وإنما هو متجذّر في بنية المجتمعات العربية نفسها، ومتغلغل في أنسجة مؤسساتها ونظمها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فيستحيل القضاء عليه والانتقال إلى الحالة الديمقراطية بضربة واحدة قاصمة. ولأنني لست ممن يعتقدون أن العالم العربي حالة مستعصية، أو عصية على التحول الديمقراطي، أظن أن عملية الانتقال إلى الحالة الديمقراطية قادمة حتماً، لكن إنجازها سيستغرق وقتاً طويلاً وجهداً. وأن الثورات التي انطلقت في نهاية 2010 بداية. وأن انتكاسة الموجة الأولى منها لا يعني موتها أو نهايتها، بدليل اندلاع موجة ثورية ثانية، شملت السودان والجزائر، ثم ثالثة، شملت لبنان والعراق. ومن ثم يتوقع أن تتلاحق هذه الموجات إلى أن تنضج بنية المجتمعات العربية، وتصبح قابلة للتحول الديمقراطي، وهو ما لن يتحقق إلا بعد أن تطاول إحدى هذه الموجات منطقة الخليج العربي، وخصوصاً الدول النفطية الغنية.
الملاحظة الثانية: تتعلق بأسباب انتكاسة الموجة الأولى من ثورات "الربيع العربي"، فهناك من لا يزال يتبنّى نظرية المؤامرة، ويروّج لأن هذه الموجة الثورية كانت نتاج مؤامرة صهيو-أميركية استهدفت تفتيت العالم العربي، وتحويله إلى كياناتٍ طائفية أو عرقية متصارعة تقودها إسرائيل. ويصرّ آخرون على إلقاء اللوم على قوى الإسلام السياسي، وتحميله وحده مسؤولية الفشل. وفي تقديري أن جميع ثورات الربيع العربي كانت تلقائية ووطنية خالصة، غير أن قوى الثورة المضادّة في الداخل والخارج تمكّنت من استغلال الأخطاء التي ارتكبتها جميع القوى الثورية، وأدّت إلى الفشل في الاتفاق على صيغة لإدارة المراحل الانتقالية التي كان يتعيّن أن تجرى خلالها عملية استئصال جذور النظم القديمة، قبل الشروع في إجراء الانتخابات، أو البحث عن آلية لتقاسم السلطة.
انغمست النخب الفكرية والسياسية التي كانت قد نجحت في تفجير ثورات "الربيع" في حملاتٍ لتبادل الاتهامات
الملاحظة الثالثة: تتعلق بتشخيص الحالة الراهنة، سواء ما يتعلق منها بحاضر النخب الحاكمة، خصوصاً التي ركبت موجة الثورات المضادّة، ووصلت حالياً إلى مقاعد السلطة، أو بحاضر القوى صاحبة المصلحة في تغيير الوضع القائم وفي التحول الديمقراطي، فمعظم النخب الحاكمة في المرحلة الراهنة لا تستمدّ سلطتها من إرادةٍ شعبيةٍ تعكسها صناديق الاقتراع، وتعتمد في بقائها على قوى أجنبية، وتمارس سياساتٍ لن تمكّنها من العثور على حلول حقيقية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم ليس لديها سوى مزيد من القمع والاستبداد، للرد على مطالب شعوبها التي تزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم، الأمر الذي سيدخلها، عاجلاً أو آجلاً، في مأزقٍ لا فكاك منه، ما لم تتمكّن من تغيير سياساتها وتوجهاتها، وتنفتح أكثر على شرائح أخرى من النخب السياسية والفكرية. أما النخب التي لديها مصلحة في تغيير الوضع الراهن فسوف تضطر إلى الانعتاق من حالة الخوف التي تعتريها، أو من حالة التمزّق والتشتت التي تمر بها، ومن ثم سوف تجد نفسها، آجلاً أو عاجلاً، مضطرّة لمراجعة أخطائها والاقتراب من بعضها أكثر فأكثر، كي تصبح في وضعٍ يسمح لها بطرح رؤية مشتركة للتغيير تكون أكثر نضجاً، وأكثر قابليةً للتجاوب مع طموحات شعوبها.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق الشعب الفلسطيني وفصائله المختلفة في المرحلة الراهنة. ولأنه يواجه فيها تحدّياً وجودياً، بسبب إصرار الولايات المتحدة وإسرائيل على تصفية قضيته وحرمانه نهائياً من حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، ويشعر بأنه بات وحيداً بعد أن تخلّت الأنظمة العربية عنه، لم يعد أمامه سوى الاعتماد على قواه الذاتية، والتحرّك للقيام بدور طليعي لإنقاذ مستقبل الأمة كلها. صحيحٌ أن معظم المحللين يعتقدون أن الشعب الفلسطيني يمرّ حالياً بأسوأ مراحله التاريخية، وربما يشكل نقطة الضعف الرئيسية في الوضع العربي العام، خصوصاً في ظل الحصار المفروض عليه، إسرائيلياً وأميركياً وعربياً، غير أنني أعتقد أن الرصيد النضالي لدى هذا الشعب يسمح له بأن يلعب دور محرّك القاطرة التي تستطيع سحب العالم العربي من الهوّة السحيقة التي وقع فيها، إن تمكّن من إعادة توحيد صفوفه، وطرح رؤية جديدة واستراتيجية مختلفة للنضال الفلسطيني، تتلاءم مع عظم التحدّيات التي يواجهها حالياً. لذا أعتقد جازماً بأن خروج العالم العربي من مأزقه الحالي بات مرهوناً بقدرة الشعب الفلسطيني على إعادة تنظيم صفوفه ومتطلبات نضاله، وهو ما لا أستبعده في المستقبل المنظور.