من عظات كورونا د. محمد الأسطل


تم النشر 27 ديسمبر 2020


عدد المشاهدات: 1381

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


من عظات كورونا:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد شاء الله تعالى أن أصاب بفيروس كورونا وقد تقدم الإصابة مدةُ نحو أسبوعين زدت فيها من العناية بإجراءات السلامة، لكن لا يغني حذرٌ من قدر.
وحالتي لم تكن خطيرة، إلا أنه مرَّ عليَّ نحوٌ من خمسة أيام أو يزيد لم أكن أقوى فيها على الكلام أو الحراك إلا بشق الأنفس، ولأول مرةٍ في حياتي أصلي وأنا مُستلقٍ على ظهري وأشعر أنَّ الصلاة شاقةٌ حتى بهذه الحالة، وكأنها عزيمةٌ لا رخصة، وكان القيامُ لقضاء الحاجة كأنه يعدل غزوةً في سبيلِ الله من شدته وشدة تبعاته.
وهذا ما صرَّح به فضيلة شيخنا الدكتور يونس الأسطل حفظه الله ووفقه وعافاه إذ كان في العناية المركزة وكان حاله فيها أشد من حالي إذ قال: "لو لم يزد عذاب الآخرة عما يعانيه المصابون من هذا المرض لكفى؛ من شدة آثاره وحِدَّةِ أعراضه بما يزيد الإشفاق من الآخرة، ويا ويح الغافلين، يا ويح الغافلين"!.
ومع انهمار غيث العظات إلا أني أكتفي بأربعِ عظات:
العظة الأولى:
ضعف الإنسان الذي لا ينتهي عند حد، كما قال سبحانه: {وخلق الإنسان ضعيفًا}، فلا بد أن تمر الأقدار بك لتريك ضعفك وعجزك، وأنك مفتقرٌ دومًا إلى رحمة الله وعونه وتسديده.
وهذه المشاعر يضعف استحضارها في جو العافية على الوجه الذي ينبغي.
ومن شواهد ذلك أني في الليلة الثانية من دخولي المستشفى وأنا لا أقوى على الحركة سقط الغطاء الذي كنت ألتحف به بجوار السرير، وكان هذا في نحو الساعة العاشرة ليلًا، وكان البرد شديدًا، فما استطعت أن أمد يدي لآخذه، وما استطعت النوم من شدة البرد، وما استطعت أن أنادي على موظف التمريض؛ لأنَّ صوتي لا يبلغه، والمريض الآخر في الغرفة عندي نائمٌ ما أحببت أن أشوش عليه.
وبقيت كذلك لا أكتحل بدقيقة نوم حتى الساعة السابعة صباحًا عندما جاء الطبيب وطلبت منه أن يناولني الغطاء جزاه الله خيرًا.
ومن شواهد الضعف العجيبة والتي اجتمع فيها نقيضان: أنني ما ذقت الطعام لمدة تسعة أيام متتالية، وكانت الأيام الخمسة الأولى من غير شعورٍ بالجوع على المعتاد في المرض، والنفس لا تشتهي طعامًا قط، لكن في الأيام الأربعة الأخرى بدأ مارد الجوع يشتد، والقدرة على الأكل معدومة، وقد ألح علي الأطباء في ذلك، وقرنوا بدء العافية ببدء الطعام، وما كنت أقدر أن ألوك شيئًا أبدًا، ومن جرَّب هذا المرض عرف معنى العجز هنا، حتى قال ابنُ عمٍّ لي وقد أصيب والده: إنني كنت أحمل والدي على الأكل ولو قل، فلما أُصِبْتُ بالداء نفسه عرفت أن حملي له على الطعام كان من جملة العقوق!.
ويعجب الإنسان من هذا الضعف؛ رغبةٌ في الطعام معدومة، وجوعٌ شديد يكاد يفتك بصاحبه، حتى تذكرت جوع أهل النار والعياذ بالله الذي يحملهم على أكل الزقوم، سلمني الله وإياكم من أهوال الآخرة وعذابها، وبلغني الجنة وإياكم من غير حسابٍ ولا عقابٍ ولا عذابٍ ولا عتاب.
العظة الثانية:
في أحد أيام الإصابة وأنا بمستشفى الأوروبي -وكان يوم أربعاء- وصلت إلى ذروة العجز في كل شيء، كان الألم شديدًا، وعند أي جملةٍ أتكلمها أو حركة أتحركها آخذ في جولةٍ سُعال يشتد معها الخطب.
فخطر ببالي من صبيحة ذلك اليوم أن أقوم بعبادةٍ ما عملت بها قبل ذلك، وربما تناولتها في حديثي، وسمعت عن ثمرتها من غيري.
هذه العبادة هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في فضلها أنه قيل لمن محَّض دعاءه بها: "إذًا يكفى همُّك ويُغفر ذنبُك"، وكفاية الهم مصلحةٌ دنيوية، ومغفرة الذنب مصلحةٌ دنيويةٌ وأخروية.
فبدأت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرت من ذلك بحسب القدرة والمستطاع، وقلت في نفسي: رجائي في الله ألا تغرب شمس هذا اليوم حتى تلوح بوادر العافية، وبقيت على ما أنا عليه، وسبحان الله! لما جنَّ الليل بدأت أشعر بالتحسن، وما زال يزداد حتى حصلت العافية بفضل الله تعالى.
والعظة ناطقةٌ بنفسها عن مقصودها.
العظة الثالثة:
فضل الإخاء وأهميته:
فبمجرد أن يعلم الناس بمرض شخصٍ وإصابته وإلا ويأخذون في التواصلِ معه والسؤال عنه والدعاء له، وهذا مشهدٌ رأيته على صفحات الفيس ما لا يُحصى من العدد، وحصل معي، وكنت أحرص رغم شدة الحال أن أرد على جميع الرسائل والاتصالات.
واستفاضة هذا في كثيرٍ من الحالات تعطيك دلالةً على المجتمع المتآخي، الذي يحرص على أبنائه، ويهتم لهم وبهم، حتى بلغ الحال ببعضهم أن يرافق المرضى في المشافي لحاجتهم لذلك رغم احتمال العدوى.
ولا أدل على هذا الشعور من تكاثف النصائح وإجراءات السلامة من الجهات الرسمية، لا سيما وزارة الصحة والداخلية والأوقاف على ما فيه سلامةُ الناس وعافيتُهم.
ويتجلى هذا المشهد على تمامه في الطاقم الطبي الذي يتابع المرضى ويخالطهم رغم احتمال العدوى، بل ويتواصل مع بيوت المحجورين حجرًا منزليًّا، ويأتيهم في بيوتهم، ويسأل عنهم، ويقدم بعض أنواع العلاج لهم، مما يجعلنا نرفع تاج الشكر والتوقير والإجلال لهذا الجيش الأبيض العظيم، الساهر على سلامة الناس وعافيتهم، أجزل الله لهم العطاء، وزاد لهم في المثوبة والجزاء.
العظة الرابعة:
تقدم في صدر المقال أن حالتي لم تكن خطيرة، بل هي حالةٌ عاديةٌ، إلا أنَّ المرض من الأعراض التي تحملك أن تفكر في نفسك؛ أين تقدمت وأين تقهقرت؟.
وهذا الحال من التفكير يجعلك تفكر في الموت، وأن الفراق آت، ويُطرح سؤالٌ على سقف هذه الأفكار: ماذا لو غادرت الدنيا هذه الأيام؟.
هذا الموطن من أعظم المواطن التي تستقيم فيها الأولويات، ترى ما كان يحتل اهتمامًا قليلًا وإذ به يرقى إلى صدر الأولويات، وترى ما كان يحتل اهتمامًا كبيرًا وإذ به يتأخر في جوف الاهتمامات أو ربما في ذيلها.
ومن نتائج جولة الخواطر هذه أنني شعرت أنَّ خروجي من الدنيا هذه الأيام كارثة الكوارث ومصيبة المصائب، وذلك أني شعرت أنَّ وردي المعتاد من القرآن لا يوازي عظمته ولا عظمة الله تعالى الذي منَّ علينا بهذا الكتاب العظيم، وصرت أنظر لمن يكثر من التلاوة ويزيد في الأوراد أنه الفقيه العالم الذي يدري حاله ومآله وسر خلقه.
والأمر الآخر: هو ورد قيام الليل، وأنَّ النصيب الذي يحدده الإنسان لنفسه لا يتوازى مع عظمة الوقوف بين يديه، ولذة التهجد والتذلل إليه، وشعرتُ بحياءٍ عظيمٍ لو وردت على الله تعالى بالحال الذي أنا عليه.
وكان السلف يمحضون الثلث الأخير للتهجد، وهو نحوٌ من ثلاث ساعات ونصف، يقول أحدهم: ما ظننت أنَّ مسلمًا ينام في هذا الوقت، واليوم توافق البشر على ضم النصف الأول كاملًا لأعمال النهار، ولا يكاد الإنسان ينام إلا مع بدء الثلث الأخير من الليل، ويستيقظ عند الفجر، فلا يقع نومه إلا في الوقت الذي ينزل الله تعالى فيه إلى السماء الدنيا ليغفر لعباده ويجيب أدعيتهم ويحقق رجاءهم، وربما عدَّ الناس صلاة الفجر مع ذلك عزيمة.
وصرت أقول في نفسي: آهٍ لو مدَّ الله شيئًا في العُمر؛ ليستدرك الإنسان بعض ما فاته من لذائذ طاعة ربه.
ولما خرجت من المشفى وعدت إلى البيت وقعت عيني على آياتٍ كأني لأول مرةٍ أتلوها، مع أنها من الآيات التي أكثر من القراءة بها في صلاتي، وهي قول الله تعالى في خواتيم سورة المنافقون: {يا أيها الذين آمنوا لا تهلكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتيَ أحدَكم الموتُ فيقول ربِّ لولا أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصَّدَّق وأكنْ من الصالحين} فأضافت هذه الآية فضيلة الصدقة، وإن كانت مرتبطةً بالسياق الذي جاءت السورة لتقريره.
ثم خُتِمت السورةُ بالآية التي جاء وقعها شديدًا جدًّا على النفس: {ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها والله خبيرٌ بما تعملون}.
إذا جاء الأجل فقد انقطعت الفُرص وقد انتهت المُهَل.
ولهذا من فقه الرجل أن يتعظ بغيره قبل أن يأتي أجله، ومهما كان المرء مشغولًا بأعمال البر.. فينبغي أن يحافظ على أوراده التعبدية من مثل التلاوة والتهجد والتسبيح والقراءة في الكتب الإيمانية والتربوية، فهذه ستراها من الأعمال الكبار إذا مرت بك مواطن العظة والضعف.
فالرسالة لي ولك ألا تطول غربتنا ولا تمتد غيبتنا عن المصحف والسجادة وأوراد التسبيح؛ فإنها الوقود المحرك لأوراد العلم والدعوة والسياسة والجهاد، وغير ذلك من ميادين القُرَبِ والتعبد.
والحمد لله رب العالمين.



- انشر الخبر -