ضريبة الإيمان الذهبي بقلم الشيخ : محمد الأسطل


تم النشر 06 فبراير 2015


عدد المشاهدات: 934


كتب اللهُ - عز وجل - على صفوتِه من عباده ولوجَ نار البلايا؛ يستنضجُ فكرَهم، وينقي معدنَهم من الشَّوائب؛ ليخرجوا ذهبًا أحمر يتلألأ، ألا ترى أنَّ الطعام لا يؤكل إلا بعرضه على النَّار؟! وقد جعل اللهُ - عز وجل - الدُّور ثلاثةً كما قال "ابن القيم": "دارًا أُخْلِصَت للطيبين، وهي الجنة، ودارًا أُخْلِصَت للخبيثين، وهي النَّار، ودارًا امتَزَجَ فيها الطَّيب والخبيث، وهي الحياةُ الدنيا؛ ولهذا وقع الابتلاء، فإذا كان يوم ميعاد الخليقة، ميَّزَ اللّهُ - عز وجل - الخبيثَ مِن الطيب، فعاد الأمرُ إلى دارين فقط: الجنَّة، وهي دار الطيبين، والنَّار، وهي دار الخبيثين".

 

دعوةٌ تنضجُ على النَّار:

ضرب الله مثلاً لذلك بالحُلِيِّ الذهبيةِ، فقال - عز وجل -: ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّار ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ... ﴾ [الرعد: 17]، فإذا عُرِضَ الذَّهبُ على النَّار، زال خبثُه، وبان صفوُه، وإلا بقي رديئًا، ومعلوم أنه منازل ورُتَب، فهناك عيار أربع وعشرين، وهو أجودُها، وواحد وعشرين، وثمانيةَ عشر...، ولما كان الذَّهبُ يُجَرَّبُ بالنَّار، فإنَّ العبدَ الصالح يجرب بالبلاء وَفْقَ مقادير ذهبية، فمنهم الناضج بسرعةٍ بالغة، ومنهم الذي يتطلب عرضًا أكثر على النَّار ليصفو، ولا عجب أنْ تأتي النتائجُ بالأرقام، فالمقداد - رضي الله عنه - بألفٍ، وصوت العباس - رضي الله عنه - بألف، أمَّا إن سِرْنا دون عرض على النَّار، فلا خلافَ أنَّ اللحوم النيئة لا تُشتَهى ولا تُؤكَل، فلا تمكينَ إلا بتمحيص، ولا تمحيص إلا بنارِ البلاء، وإنما نحن دعوة لا تنضج إلا على النَّار، فلا ضيرَ أنْ يكون أسرانا بالآلاف، وأشلاء إخواننا تتصاعد على رؤوس الأعمدةِ وصفحة الجدْران، إلا أنَّ العاقبةَ للمتقين: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96].

 

قال "ابن القيم": "اقتضتْ حكمةُ الله - تعالى - أن يمتحن النفوسَ؛ ليظهر من يَصْلُحَ لموالاتِه وكراماته ومن لا يصلح، كالذَّهب الذى لا يخلُص ولا يصفو مِن غِشِّه إلا بالامتحان؛ إذ النفسُ في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهلِ والظُّلم مِن الخُبث ما يحتاجُ خروجُه إلى السَّبكِ والتصفية"؛ كي يُطهَّر من دَرَنِ الدار، ومن شَعَثِ الأسفَار، وليس المرادُ أن يُعذَّب؛ ولكن يُبْتَلَى لِيُهَذَّب.

 

نارٌ نافعة:

هذا "الإمام أحمد" يُعرض على النَّار والكير، حتى صار ظهرُه أخاديدَ، فخرج ذهبًا أحمرَ، وكتب الله له إمامةَ أهلِ السنة والجماعة، ورفعه في قلوب النَّاس جميعًا، قال تلميذه المروزي له: "ما أكثرَ من يدْعون لك، كنا في بلاد الرُّوم فكان المجاهدون في رباطهم يدعون لك في الهزيع الأخير من الليل، ويبكون ويسألون الله تعالى لك، ووالله يا أحمد، لقد رأيت الجنود إذا حَمِيَ الوَطيسُ يرمي أحدُهم بالمنجنيق ويقول: هذا عن "الإمام أحمد"، فربما ضرب عِلْجًا من علوج الرُّوم فقطعه أو قتله، فبكى أحمد وقال: من أجل ماذا يصنعون هذا ؟"، رفعه اللهُ بعد نار البلاء حتى قال قتيبة: "قام أحمد في الأمة مقامَ النبوَّة"، وقال شيخ البخاري إسحاق بن راهويه: "أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه".

 

وعلى دربه "ابن تيمية"، سَجَنَهُ قومُه بـ"سجنِ القلعة" في تهمة باطلة، فكانت نارُ سجنه منحةً ربانية جليلة قال عنها: "لو بذلوا لي مثل هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكرَ هذه النِّعمة، وما جازيتُهم على ما ساقوا إليَّ من الخير"، فالسِّجن يا إخواننا هو المكانُ الطبيعي للرَّجل الحرِّ في الأمة المستعبدة.

 

وهم يتبدد:

يلحظ المتبصِّر أنَّ الذهبَ النفيس مغمور، أما خبيثُه فظاهرٌ، وساعةُ العرضِ على النَّار فلا شائبةَ تبقى ولا نقيصة، وهكذا أربابُ الباطل يتصدرون الساحاتِ، ووسائلَ الإعلام، لكنْ أبشِّرُكم إخوانَنا أنَّ النَّار موقدة منذ أمد، فما هي إلا سُوَيْعات حتى يتمَّ نضوجُ الأمة المسلمة، ويظهر الحقُّ على الباطل فيدمغه، إنَّ الباطل كان زهوقًا، وقد يكتمل بنيانُ المؤمنين إلا من ثُلْمَة تأتي نار البلايا تجبُرها، كما جاءت لإخواننا "يوم أحد" تسدُّ ثلمةَ تركِ طاعةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا في "حنين" تعالج ثلمةَ العُجْبِ بالكثرة، ونسيان سندنا الرباني الأصيل:

فَلَرُبَّمَا كَانَ الدُّخُولُ إِلَى الْعُلاَ
والْمَجْدِ من بَوَّابَةِ الْأَحْزَانِ

 

نضوج يصنع المجد:

انبرى "ابن القيم" يؤكِّد النظريةَ فقال: إذا تأمَّلتَ حكمته سبحانه فيما ابتلى به صفوتَه، بما ساقهم به إلى أكمل النهاياتِ التي لم يكونوا يعبُرون إليها إلا على جسرٍ من الابتلاء، وكان ذلك الجسرُ لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، فصورتُه صورة ابتلاء وامتحان، وباطنُه فيه الرَّحمةُ والنعمة، فكم لله من نعمةٍ جسيمة، ومنة عظيمة تُجْنى من قطوف الابتلاء والامتحان: ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت : 43].

 

فتأمَّلْ آدم - عليه السلام - وما آلتْ إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء، ثم نوح - عليه السلام - الذي أغرقَ اللهُ أهلَ الأرض بدعوته، وجعل العالَم بعدَه من ذريتِه، وهذا إبراهيم - عليه السلام - دخل النَّارَ فخرج غانمًا، وكان أُمَّةً شاكرًا لأنعم ربه، وانظر إلى يوسف - عليه السلام - قال له إخوته: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف : 91]، فإيثار اللهِ له لم يكن عطاءً من غيرِ مؤهل، لكن الصبر أوصلهم: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة : 24]، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: بالصَّبر أدركنا حسنَ العَيْش، وقال الحسن: الناس يتساوون، فإذا نزل البلاءُ تباينوا، ألا إنَّ طريق الدعوة ممتدٌّ، ومن استطال الطريق ضعف مشيه.

 

مواجهة ونداء؟

صدح "ابن القيم" بسهام صَوَّبَهَا إلى قلب كلِّ فاترٍ، جاء فيها:

يا مخنثَ العزمِ، أين أنت؟ والطريق تعب فيه آدمُ، وناح لأجله نوح، ورُمي في النَّار الخليل، وأُضجع للذبح إِسماعيلُ، وبيع يوسفُ بثمن بخس، ولبث في السِّجن بضعَ سنين، ونشر بالمنشار زكرياء، وذُبِح السيد الحصورُ يحيى، وقاسى الضُّرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاءُ داودَ، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمد - صلى الله عليه وسلم - تُزهى أنت باللهو واللعب؟ لو عُفِيَ أحدٌ من الابتلاء لعفَى اللهُ أنبياءَه ورسلَه وأتباع رسله وحوارييهم، فلا يزال الحال هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ﴿ ... وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب : 62].

 

هَذَا، وَصَلِّ اللهُم وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين




- انشر الخبر -