منذ الإعلان عن المهزلة المسماة بـ"التطبيع"، بين الكيانات الثلاثة: إسرائيل والإمارات والبحرين، يحضرني ويلح على ذهني هذا الحديثُ النبوي الشريف المتفق عليه، وهو:
عن جابر بن عبد الله (أن أعرابيا بايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب الأعرابيَّ وعك بالمدينة، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقِلْني بيعتي، فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى. ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى. فخرج الأعرابيُّ.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما المدينة كالكير تنفى خَبَـثـَها وينصع طيبُها»).
ففي الحديث:
-أعرابي يبايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم،
-وبمجرد أن أصابته وعكة سخطَ ونكص، وجاء يطلب إعفاءه من بيعته وإقرارَه على ردته،
-النبي عليه الصلاة والسلام يرفض نقض البيعة؛ فالبيعة ليست لُعبة مزاجية، تُعقد في يوم، وتُنقض في اليوم الذي يليه، ولمجرد وعكة.
-الأعرابي ينقض بيعته من جانب واحد، ويغادر المدينة عائدا إلى قبيلته، إلى الشرك والمشركين..
وهكذا – بل أسوأ – فعل أعرابٌ من أبو ظبي والمنامة.. انقلبوا على ملتهم، وانشقُّوا عن أمتهم، ونقضوا ما بذمتهم.. وقد أثبتوا بسلوكهم هذا أنهم لا يصلحون لا للأمة ولا للملة ولا للذمة.. ولذلك فإن جسم الأمة الذي ضاقوا به، هو أيضا قد ضاق بهم، واستثقل وجودهم فيه، فلفظهم.. «إنما المدينة كالكير تنفى خَبَـثـَها وينصع طيبُها».
وعلى سبيل المثال، فقد رأى العالَـم تلك الفضيحة الأعرابية المدوية لمن يسمى وزير الخارجية الإماراتي، حين لم يعرف أين يوقع ولا كيف يوقع على "اتفاقية التطبيع"، حتى لجأ إلى ترامب ونتنياهو لينقذاه من ورطته المخزية.. ولما “وقَّـع”، رأى الناسُ توقيعا يخجل منه حتى الأميون ورعاة المواشي.. ولقد شعرتُ عندها بالارتياح وعدم الحرج، لكون هذا الأعرابيِّ الأميِّ قد انفصل عنا، ولم يعد منا ولا محسوبا علينا..
وإذن، فالوجه الحقيقي لما رأيناه وسمعناه من تطبيع وتطبيل وتهويل، هو أن الأمة العربية – ومِن حولها الأمةُ الإسلامية عامة – قد لفظت من جسمها جزءا خبيثا كان عالقا بها. لقد هرول حكام أبو ظبي وحكام المنامة إلى أحضان العدو الصهيوني، طالبين منه الحماية والكفالة والمكافأة، مقابل خيانتهم وانشقاقهم وتصهيُنِهم.. وهذا هو اللائق بهم عند من يعرفون حقيقتهم. وكما يقال: ما كان يجري تحت الطاولة، صار يجري فوق الطاولة.
وحتى المفتي الجديد للإمارات – الشيخ عبد الله بن بيه – أصبح اليوم يفتي صراحة وحصريا بمقتضى خلطة جديدة عجيبة، يسمونها "الأديان الإبراهيمية الثلاثة"، بعد أن كان يفتي منذ سبعين سنة بالشريعة الإسلامية وبالقرآن والسنة والمذهب المالكي!!!
ومعلوم أن مسار الخيانة والغدر والانسلاخ ليس جديدا على حكام الإمارات والمؤامرات، بل يمكن رصد إحدى محطاته الواضحة منذ اغتيال القيادي الفلسطيني الشهيد محمود المبحوح في دبي، مطلعَ العام 2010، بتنسيق بين المخابرات الإسرائيلية والمخابرات الإماراتية.. وقبل يومين صرح السيد جبريل الرجوب القيادي في السلطة الفلسطينية وفي حركة فتح، بأن الإمارات تقاطع السفير الفلسطيني عندها ولا تتعامل معه، منذ سنة 2010 إلى الآن. وإذن ففي سنة 2010، كان التلاحم الصهيوماراتي قد وصل درجة التنفيذ المشترك للاغتيالات، يقابله قطيعة تامة مع السلطة الفلسطينية.
ومن المعلوم والواضح أيضا أن هذه العلاقات الفعلية بين الكيانين الإماراتي والصهيوني قد تكثفت وتصاعدت وتيرتها منذ سنة 2011، وخاصة على الأصعدة الأمنية والاستخباراتة والاقتصادية، إلى أن دخلت الآن مرحلة العلانية والترسيم والتوسيع والاندماج.
فالعلاقة بين الطرفين تتجاوز الآن مسألة التطبيع والاعتراف بمشروعية الاحتلال والاغتصاب وبكافة جرائمه الجارية دون توقف، بل إن الطرف الإماراتي والبحريني، (العربي سابقا)، قد وضع نفسه وأرضه وإمكاناته في خدمة إسرائيل ومخططاتها، بل بدأ يستغل حتى الأراضي اليمنية المحتلة إماراتيا، ويضعها تحت تصرف العدو، في مقابل أن تقوم “إسرائيل” بالحماية والرعاية الأمنية والاستخباراتية والعسكرية للحكام الخونة، لكون هؤلاء لم تعد لهم – ومن مدة – ثقة لا في شعوبهم ولا في أجهزتهم، ولا في أشقائهم العرب والمسلمين.
على أنّ ما نحمد الله عليه هو أن هؤلاء الخونة الجدد معدودون وتافهون وهامشيون ومحتقرون إلى أبعد الحدود. وأنا أعني الخونة الحاكمين، لا إخواننا وأشقاءنا وأحبتنا الإماراتيين والبحرينيين حاشاهم وبارك الله فيهم.
وأيضا فقد أعطت هذه الخيانةُ الصريحة والمستفزة ردودَ فعل قويةً مضادة لها في كل أنحاء العالم الإسلامي. وما زال التفاعل مستمرا ومتصاعدا بما يخدم القضية الفلسطينية، ويوَعِّي الناس بحقائقها، ويعيد لها صدارتها وشعبيتها ووهجها. {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
منقول عن (الموقع الرسمي للأستاذ أحمد الريسوني)