لماذا لا يعني "التطبيع" سلاما حقيقيا؟


تم النشر 16 سبتمبر 2020


عدد المشاهدات: 1083

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


 
 
 
انطلق موسم جديد من أهازيج السلام، وكأنّ الأوضاع في الشرق الأوسط المُلتهِب آلت إلى نهاية سعيدة. إنه انطباع مضلِّل جداً، فالمنطقة غارقة في حروب طاحنة وصراعات لا تنتهي بمشاركة فعّالة من العواصم العربية ذاتها التي ترفع شعارات السلام مع الجانب الإسرائيلي، ولا تجرؤ على التذكير بالحقوق والعدالة وكرامة الإنسان والقانون الدولي. وكلّما تقدّمت خطوات "التطبيع" ارتفع منسوب القمع والترهيب وكبت الحريات داخل الدول العربية التي تقرِّر الانزلاق العلني نحو الاحتلال الإسرائيلي.

يبدو دونالد ترمب عازماً على جرّ هذه العواصم العربية إلى سكة "التطبيع" قبل نهاية ولايته الرئاسية الأولى، ويبدو أنّ أتباعه في المنطقة ينصاعون بإخلاص لإملاءاته ويستمعون بحرص لتعليمات صهره جاريد كوشنر، بعد أن ساهم النفط الخليجي في إنعاش الاقتصاد الأمريكي بصفقات كبرى تعود بكثير من "الوظائف، الوظائف، الوظائف" على الأمريكيين، حسب تعبير سيد البيت الأبيض.

أمّا بنيامين نتنياهو فاعتاد أن يخرج من أزمته الداخلية كل حين ليبتسم لجمهوره وهو يُعلن عن قرب "حدث تاريخي" أو "نبأ سارّ" من عاصمة عربية جديدة. ليس هذا "التطبيع" سلاماً في حقيقته، فهو يعني انصياع هذه الدول لمنطق القوّة المفروضة ورضوخها لسيطرة الاحتلال على الأرض وإذعانها لمكانته الاستراتيجية في قلب المنطقة. ويقضي هذا "التطبيع" بإنهاء المشروعات السابقة التي قامت على أساس "الأرض مقابل السلام"، بما فيها مبادرة السلام العربية لسنة 2002.

تأتي حملة "التطبيع" لتكريس استدامة الاحتلال في فلسطين ولتعزيز الاستعلاء الاستراتيجي الإسرائيلي، المدعوم أمريكياً، وهو ما يتّضح في التفوّق العسكري الذي لا ينبغي لأي من دول المنطقة أن تُنافس فيه القوة الإسرائيلية حتى لو أطلقت القنوات العربية أهازيج السلام على مدار الساعة. ورغم أنّ قيادة دولة الإمارات أظهرت كثيراً من التودّد لحكومة نتنياهو في الآونة الأخيرة، إلاّ أنها لم تظفر بصفقة طائرات "إف 35" الأمريكية؛ لأنّ سلاح الجو الإسرائيلي وحده مِن بين دول المنطقة من يحقّ له الحصول عليها. الرسالة واضحة، فمعادلة الردع الإسرائيلية تبقى قائمة، ويجري تعزيزها بلا هوادة بمزيد من التسلّح، ولا قيمة لشعارات "السلام" في هذا الشأن.

من السهل اكتشاف أنّ "التطبيع" لا يعبِّر بأي شكل من الأشكال عن مواقف الشعوب الخليجية أو عن آراء الجماهير العربية، بل إنّ للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي متلازماته المؤذية داخلياً بالنسبة للشعوب العربية، مثل تصعيد القمع وكبت الحريات وتكميم الأفواه لمنع أي أصوات معارضة.

واقع الحال أنّ الدول الخليجية التي تلتحق بقطار التطبيع لا تشهد أي نقاشات داخلية حرّة في هذا الشأن؛ مثلاً عن الأثمان والالتزامات التي ستترتّب على هذه الانزلاقات الاستراتيجية المتسارعة، فهي بلدان لا تعرف حياة برلمانية أو نقابات مستقلّة أو مقالات رأي ناقدة. أمّا المواطنون الذين يجرؤون على التعبير عن معارضة "التطبيع" مع الاحتلال الإسرائيلي، فيواجهون مخاطر الاعتقال أو الاختفاء القسري كما حدث مع سابقيهم. وقد سبق الزجّ بكثير من الشخصيات العامة ورموز المجتمع والمثقفين والإصلاحيين وناشطي الشبكات الاجتماعية في السجون، قبيل رفع الأعلام الإسرائيلية في عواصم خليجية.

تعمل السلطات الأمنية هناك على فرض سيطرة شاملة على الفضاء الشبكي، من خلال حزمة قوانين صارمة وإجراءات قسرية تهدف إلى مطاردة النقد وترهيب المواطنين من مغبّة التعبير الحرّ عن آرائهم في مواقع التواصل الاجتماعي، زيادة على منع أي نشاطات عامة في هذا الشأن بطبيعة الحال. وتدفع السلطات بتدفقات هائلة من المضامين التي تدعم سياساتها، ومنها تبرير التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال مجموعات إلكترونية توظِّف أعداداً غفيرة من الأشخاص على مدار الساعة لنشر معلومات مضلِّلة وللتصدي للانتقادات.

لكنّ الحالة في الكويت تبدو مختلفة تماماً عمّا يجري في بلدان خليجية أخرى؛ مثل دولة الإمارات أو المملكة العربية السعودية. فالموقف الكويتي رسمياً وشعبياً ما زال متمسّكاً بدعم قضية فلسطين بصفة صريحة، ويرفض سباق التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي الذي تشهده دول أخرى في المنطقة. إنّ كلمة السرّ خلف هذا الموقف الكويتي يكمن في حياة ديمقراطية نشطة تتميّز بها البلاد، وفي منسوب الحريات المُتاحة للمواطنين والمجتمع المدني، وهذه حالة تشكِّل سياجاً آمناً لصانع القرار الكويتي في مواجهة الضغوط الخارجية التي قد يواجهها لاستدراجه إلى التطبيع مع الإسرائيليين.

بعيداً عن دول الخليج، يظهر اسم السودان بوضوح على قائمة الدول المرشّحة لتطبيع علاقاتها مع الجانب الإسرائيلي، واتّضح ذلك عندما أقدم القائد العسكري الانتقالي للبلاد عبد الفتاح البرهان على الاجتماع برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلسة بعيداً عن أنظار شعبه في عنتيبي بأوغندا، في شباط/ فبراير 2020، وأثارت خطوته غضباً شديداً بين السودانيين.

إنّ التحاق السودان بهذا الركب سيكون رسالة انصياع مؤكدة من عاصمة عربية أخرى لسياسة الابتزاز التي تخدم الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، فالضغوط التي تُمارَس على الخرطوم كي ينخرط في "التطبيع" مع إسرائيل تبتزّ بلداً غارقاً في متاعبه المعقّدة وعالقاً في مرحلة انتقالية متعثِّرة.

إنّ المُساومات الخارجية المدفوعة من الإدارة الأمريكية وعواصم خليجية تسير في فلك واشنطن، تحاول استدراج السودان إلى قطار "التطبيع" مقابل وعود بالمساعدة على احتواء المصاعب الاقتصادية والسياسية الخانقة في البلاد التي تديرها حكومة انتقالية غير مُنتخبة من الشعب. لكنّ أزمات الخرطوم تزداد تعقيداً منذ لقاء البرهان ونتنياهو، كما أنّ الدول العربية التي سبقت إلى تجريب "التطبيع"، أي مصر والأردن، صارت أكثر فقراً وباتت تواجه مصاعب اقتصادية مزمنة، بخلاف وعود الرفاه التي صاحبت توقيع اتفاقاتها مع الجانب الإسرائيلي قبل عقود.

من الواضح أنّ القيادة الإسرائيلية تستغلّ مكانتها الخاصة لدى الإدارة الأمريكية فتتصرّف كأنها الوكيل الإقليمي للولايات المتحدة، أو كأنّ حكومة نتنياهو هي بوابة العبور المؤكدة إلى البيت الأبيض. لمثل هذا مفعوله بالنسبة للسودان الذي يطمح إلى شطب اسمه من لائحة الإرهاب وتخفيف أزماته الاقتصادية، ولهذا تأثيره المؤكّد لدى قادة مستبدِّين يطمحون إلى كسب الرعاية الأمريكية لبقائهم في قصور الحكم نصف قرن آخر، مهما كلّف ذلك من أثمان استراتيجية.

لا يقوم هذا الانزلاق المتسارع نحو دولة الاحتلال الإسرائيلي على "ثقافة سلام" كما تزعم دعاية التضليل الساذجة، فهذه العواصم منخرطة في الاستبداد الداخلي وخوْض الحروب والصراعات الضارية على جبهات عدّة. تجري في خلفية الابتسامات الزائفة والمصافحات محاولات دؤوبة لتشكيل محور صراعات جديد في المنطقة يمنح القاعدة الحربية الإسرائيلية الضخمة مكانة المركز الاستراتيجي المنيع فيه، على أنقاض "عملية سلام الشرق الأوسط" التي صارت نسياً منسياً.

* ترجمة خاصة إلى العربية عن "ميدل إيست مونيتور"



- انشر الخبر -