بسم الله الرحمن الرحيم
التضييق في الرزق / بقلم أ,سامي طراف الأسطل
خلق الله الإنسان وأورثه الأرض واستعمره فيها، وهيأ له كل مقومات التمكين، ومن أهم مقومات التمكين الرزق في الحياة، فقد تكفل - عز وجل - برزق الإنسان أياً كان دينه ومذهبه وسلوكه، المؤمن ينعم برزق الله وكذا الكافر والفاسق والعاصي.
ولعل من أشد أنواع أذى الإنسان لأخيه الإنسان التضييق في الرزق ومحاصرة الأقوات، وهذا الإيذاء لا يلجأ إليه إلا الإنسان الموغل في الطغيان والكفر معدوم الإنسانية والإحساس والشعور والضمير، فلقد لجأ إليه مشركو مكة في بداية الدعوة وضربوا حصاراً اقتصادياً على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والثلة المؤمنة معه وبنى هاشم الذين يحمون النبي – صلى الله عليه وسلم – عصبية، وألجئوهم إلى شعب أبي طالب ، وكان القائمين عليه هم أشد المشركين كفراً وأسوأهم خلقاً أمثال أبي جهل وأبي لهب، واستمر قرابة ثلاث سنين، نُقض بعدها والذي نقضه هم المشركون أنفسهم لعدم تمشيه مع الشعور الإنساني السوي، وذكر كتّاب السير أن الذي قام بنقضه هو هشام بن عمرو مع أربعة آخرين من المشركين.
وأيضاً دعا إليه المنافقون في عهد الدعوة المدني، وما أدراك ما المنافقين .. لشدة سوءهم توعدهم رب العزة بالدرك الأسفل من النار وما ذلك إلا لانحطاط أفعالهم وسوء سرائرهم لأبعد حد، فهم الذين عشقوا الظلام بعدما رأو النور فختم الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ولا يعلمون كأنهم خشب مسندة في هيئة البشر.
{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا }المنافقون7
ويلجأ إليه في آخر الزمان مسيح الضلالة أعظم فتنة أخبر عنها النبي – صلى الله عليه وسلم – فلقد جاء في الحديث " ثم يأتي القوم، فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ".
ومن كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان لا يلجأ إلى هذا الأسلوب البتة.
ولقد جعل الله غز وجل جواز المرور إلى زمرة أهل الإيمان إغاثة الملهوف وإطعام الجائع، قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ{11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ{12} فَكُّ رَقَبَةٍ{13} أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ{14} يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ{15} أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ{16} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ{17} أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ{18}.
ولقد خطر على بال أبي بكر لشدة انفعاله عندما أطلق مسطح بن أثاثة لسانه في عرض أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها –، وكان أبو بكر ينفق عليه فعزم على قطع النفقة عنه، فجاءه العتاب الرباني مباشرة {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور22
فمباشرة رجع أبو بكر عن همه هذا، وقال بلى والله إني أحب أن يغفر لي ربي، وعاد إلى الإنفاق رغم غور الجرح ... والتهاب المشاعر ....
والتوسعة في الرزق إنما يدل على أصالة المعدن ونقاء السريرة تلك الفضائل التي تؤهل صاحبها لأعلى درجات الفضل، فلقد نقل التاريخ عن أهل يثرب عندما غزاهم "تبع اليماني" أنهم كان يحاربون جنود تبع في النهار ويقرونهم في الليل، فتنبه تبع لهذا الخلق العظيم، فرفع عنهم الحصار وسحب جنوده وقال " إنكم تقاتلون قوماً كراماً ".
وكأن الله – عز وجل – نظر إلى نفوسهم وإلى حسن فعالهم فجعلهم أنصار نبيه – صلى الله عليه وسلم – فيما بعد.
والتضييق في الرزق قد يكون جريمة لا تغتفر يورث صاحبها النار والعياذ بالله حتى على الحيوان ناهيك عن الإنسان فلقد دخلت النار امرأة في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا جعلتها تأكل من خشاش الأرض كما جاء في الحديث الشريف، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( عُذّبت امرأة في هرّة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها، ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) متفق عليه.
وضيق الرزق قد يسمح لصاحبه تعدى الخطوط الحمر التي وضعتها الشريعة، ففي عام الرمادة لم يقم عمر – رضي الله عنه – الحدود، وما ذلك إلا للعسر الذي أصاب الناس في تلك السنة الفقر المجدبة.
ولقد سمح النبي – صلى الله عليه وسلم – لهند بنت عتبه أن تأخذ من مال أبي سفيان بدون علمه توسعة عليها وعلى أولادها لأن أبا سفيان كان شحيحاً.
فإذا كان المضيق على الناس في أرزاقهم لا يخشى ذلك كله ولا يأبه له، فليخشَ على دنياه، فكثيراً من الملوك الذي قوضت عروشهم ونُهبت أملاكهم كان بسبب ثورة الجياع الذين كانوا يُضيقون عليهم في معاشهم، مثل الثورة الفرنسية حيث انقض الفرنسيون الجياع على أسرة بربون ملوك فرنسا وقتلوا الملك لويس السادس عشر وزوجته، وجاءت الثورة بمعايير إنسانية لم تسبق لها مثيل في أوربا، وأيضا ثورة البلاشفة في روسيا إنما كان سببها تذمر العمال وذوى الأرزاق المحدودة قاموا بالثورة على حكم القيصر الذي كان غارقاً في النعيم حتى أذنيه....
والعكس هو الصحيح فقد حظي الرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت" بأربع فترات رئاسية متتالية، من تاريخ 4 مارس 1933 إلى 12 أبريل 1945، وما ذلك إلا لأنه أنقذ البلاد من جائحة اقتصادية، مع العلم أن قانون الانتخابات عندهم لا يسمح للرئيس أن يتولى الرئاسة أكثر من فترتين..
أفلا يخشى المضيقون على الناس في الرزق وأصحاب الحرب الاقتصادية على أنفسهم من يوم كأيام الذين خلوا من قبلهم؟!