مثل الحكومة العادلة الهادفة إلى الصلاح والاستصلاح، والحكومة المستبدة الساعية إلى كل فساد وإفساد، كمثل البستاني العارف المتمكّن والحطّاب الذي لا يطلب إلا عاجل الاكتساب، فلا ينتج إلا حال البوار؛ ذلك أن لكلٍ عمله، البستاني يصلح فيزهر والحطّاب يفسد فيدمر؛ فلكل هدف وقصد وأسلوب وطريقة، فقصد الصلاح غير استهداف الفساد؛ وكأنه يستحضر معاني السياسة في أصلها المعجمي، بالقيام على الأمر بما يصلحه.. "نعم: الأقوام كالآجام، إن تُرِكت مهملة تزاحمت أشجارها وأفلاذها، وسقُم أكثرها، وتغلَّب قويّها على ضعيفها فأهلكه، وهذا مثل القبائل المتوحِّشة. وإن صادفت بستانياً يهمه بقاؤها وزهوها فدبّرها حسبما تطلبه طباعها، قويت وأينعت وحسُنت ثمارها، وهذا مثل الحكومة العادلة. وإذا بُليت ببستانيٍّ جدير بأن يسمّى حطّاباً لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب، أفسدها وخرّبها، وهذا مثل الحكومة المستبدّة. ومتى كان الحطّاب غريباً لم يُخلق من تراب تلك الديار وليس له فيها فخار ولا يلحقه منها عار، إنّما همّه الحصول على الفائدة العاجلة ولو باقتلاع الأصول، فهناك الطّامة وهناك البوار. فبناءً على هذا المثال، يكون فِعلُ الاستبداد في أخلاق الأمم فِعل ذلك الحطّاب الذي لا يُرجى منه غير الإفساد.
فِعلُ الاستبداد في أخلاق الأمم مثل فِعل ذلك الحطّاب الذي لا يُرجى منه غير الإفساد
وفعل الإصلاح شبكيٌّ مركب، أوله النصيحة، كأقوى ضابط أخلاقي يشكل الضبط الجمعي والاجتماعي جوهر أدواره ووظائفه الهادفة لحراسة الاجتماع والنظام العام في الشأن العام والأمر العام، بما يحفظ فاعلية المجتمع في وظائفه المتنوعة، وبما يشكله من رأي عام ووعي جمعي يستهدف ترسيخ المعايير في مواجهة فقدانها، وتمكين القيم الأساسية العامة لحماية تماسك المجتمع وحيويته وفاعلية، ليصب ذلك في كيان المجتمع والحفاظ على شبكة علاقاته الاجتماعية، وصب في عافيته وصحته المجتمعية؛ ذلك أن .."أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ؛ أي بحرص الأفراد على حراسة نظام الاجتماع، وهذه الوظيفة غير مقدور عليها في عهد الاستبداد لغير ذوي المنعة وقليل ما هم، وقليلاً ما يفعلون، وقليلاً ما يفيد نهيهم؛ لأنه لا يمكنهم توجيهه لغير المستضعفين الذين لا يملكون ضرراً ولا نفعاً، بل ولا يملكون من أنفسهم شيئاً، ولأنَّه ينحصر موضوع نهيهم فيما لا تخفى قباحته على أحدٍ من الرّذائل النفسية الشخصية فقط، والموظَّفون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد يكونون مطلقاً. ولا أقول غالباً، من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملّق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأنَّ النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر عقيم لا ينبت، وإنْ نبت كان رياءً كأصله، ثمَّ إنَّ النُّصح لا يفيد شيئاً إذا لم يصادف أذناً تتطلّب سماعه؛ لأنَّ النصيحة، وإن كانت عن إخلاص، فهي لا تتجاوز حُكْمَ البذر الحيّ: إنْ أُلقي في أرضٍ صالحة نبت، وإن أُلقي في أرضٍ قاحلة مات".
فعل الإصلاح شبكيٌّ مركب، أوله النصيحة، كأقوى ضابط أخلاقي يشكل الضبط الجمعي والاجتماعي جوهر أدواره ووظائفه الهادفة لحراسة الاجتماع والنظام العام
إن حرية التعبير المسؤولة والنقد الفعال في الشأن العام يتوجه من كل أحد ولكل أحد، ولا يفرق في ممارسته بين أحد وأحد.. "أمّا النهي عن المنكرات في الإدارة الحرّة، فيمكن لكلِّ غيورٍ على نظام قومه أن يقوم به بأمانٍ وإخلاص، وأن يوجِّه سهام قوارصه على الضعفاء والأقوياء سواء، فلا يخصُّ بها الفقير المجروح الفؤاد، بل تستهدف أيضاً ذوي الشّوكة والعناد. وأنْ يخوض في كلِّ وادٍ حتى في مواضيع تخفيف الظُّلم ومؤاخذة الحُكّام، وهذا هو النصح الإنكاري الذي يُعدي ويُجدي، والذي أطلق عليه النّبي عليه السلام اسم (الدّين) تعظيماً لشأنه، فقال: "الدين النصيحة"؛ إنه النصح الإنكاري لمواجهة كل ظلم ومحاسبة كل حاكم مسؤول.. ومن هنا.. "لمّا كان ضبطُ أخلاق الطبقات العليا من النّاس أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرّة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنيةً القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرَّة الفوضى في ذلك خير التحديد؛ لأنَّه لا مانع للحكّام أنْ يجعلوا الشّعرة من التقييد سلسلة من حديد، ويخنقوا بها عدوّتهم الطبيعة، أي الحريّة. وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بقوله الكريم: "ولا يُضارُّ كاتبٌ ولا شهيد". فبين النصح الفعّال ومناخ الحرية علاقة كبرى تحفظ لتلك الممارسة أداءها واستمراريتها وفعالياتها.
حرية التعبير المسؤولة والنقد الفعال في الشأن العام يتوجه من كل أحد ولكل أحد، ولا يفرق في ممارسته بين أحد وأحد
ويضع عبد الرحمن الكواكبي قانونا مهما في فعالية فعل المشاركة والاشتراك والعمل الجماعي المؤسسي القائم على النظام والانتظام؛ حينما يتجنّب الفرقة القاتلة والتشرذم والاستقطاب المقيت، فيشير بشكل مباشر وغير مباشر إلى صناعة الفرقة التي هي من حرفة واحتراف المستبد "إذا علمنا أنَّ من طبيعة الاستبداد ألفة الناس بعض الأخلاق الرديئة، وأنَّ منها ما يُضعف الثّقة بالنفس، علمنا سبب قلة أهل العمل وأهل العزائم في السّراء، وعلمنا أيضاً حكمة فقد الأُسراء ثقتهم بعضهم ببعض. فينتج من ذلك أنَّ الأُسراء محرومون طبعاً- من ثمرة الاشتراك في أعمال الحياة، يعيشون مساكين بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين،.. وهنا أستوقف المطالع وأستلفته إلى التأمّل في ما هي ثمرة الاشتراك التي يحرمها الأسراء، فأذكره بأنَّ الاشتراك هو أعظم سرٍّ في الكائنات، به قيام كلِّ شيء ما عدا الله وحده. به قيام الأجرام السماوية؛ به قيام كلِّ حياة؛ به قيام المواليد؛ به قيام الأجناس والأنواع؛ به قيام الأمم والقبائل؛ به قيام العائلات؛ به تعاون الأعضاء. نعم، الاشتراك فيه سرُّ تضاعف القوة بنسبة ناموس التربيع؛ فيه سرُّ الاستمرار على الأعمال التي لا تفي بها أعمار الأفراد. نعم؛ الاشتراك هو السرُّ كلُّ السرّ في نجاح الأمم المتمدنة. به أكملوا ناموس حياتهم القومية، به ضبطوا نظام حكوماتهم، به قاموا بعظائم الأمور، به نالوا كل ما يغبطهم عليه أُسراء الاستبداد الذين منهم العارفون بقدر الاشتراك ويتشوَّقون إليه، ولكن؛ كلٌّ منهم يُبطن لغبن شركائه باتِّكاله عليهم عملاً، واستبداده عليهم رأياً". وكأن الحكيم البشري المستشار طارق البشري قد صاغ ذلك في قانون جوهري وناموس مرعي وسنة قائمة قاضية "الحاكم يظل فردا ما دام الناس أفرادا".
"ورُبَّ قائلٍ يقول إنَّ سرَّ الاشتراك ليس بالأمر الخفيّ، .. فما السبب؟".. (في تجاهل ذلك وعدم الاهتمام به)؛ يجيب الكواكبي.. "بأنَّ الكُتَّاب كتبوا وأكثروا وأحسنوا فيما فصّلوا وصوّروا، ولكنْ؛ قاتل الله الاستبداد وشؤمه، جعل الكتّاب يحصرون أقوالهم في الدعوة إلى الاشتراك، وما بمعناه من التعاون والاتحاد والتحابب والاتِّفاق، ومنعهم من التعرُّض لذكر أسباب التفرّق والانحلال كليّاً، أو اضطرهم إلى الاقتصار على بيان الأسباب الأخيرة فقط. فمن قائلٍ مثلاً: الشرق مريضٌ وسببه الجهل، ومن قائلٍ: الجهل بلاء وسببه قلّة المدارس، ومن قائلٍ: قلّة المدارس عارٌ وسببه عدم التعاون على إنشائها من قبل الأفراد أو من قبل ذوي الشأن. وهذا أعمق ما يخطُّه قلم الكاتب الشرقي كأنّه وصل إلى السبب المانع الطبيعي أو الاختياري. والحقيقة، أنَّ هناك سلسلة أسباب أخرى حلقتها الأولى الاستبداد".
وإن فطنة المصلحين لعظم المهمة والرسالة والمسؤولية من جانب؛ وإن المستبد إنما يقوم بتعميم الأخلاق الرديئة من جانب آخر، فيعمم الفساد الأخلاقي الذي ينخر كالسوس في كيان المجتمع، فيستفحل الداء ويستعصي الدواء، وقد اتَّفق الحكماء الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الأخذ بيد الأمم في بحثهم عن المهلكات والمنجيات، على أنَّ فساد الأخلاق يُخرج الأمم عن أن تكون قابلة للخطاب، وأنَّ معاناة إصلاح الأخلاق من أصعب الأمور، وأحوجها إلى الحكمة البالغة والعزم القوي، وذكروا أنَّ فساد الأخلاق يعمُّ المستبدَّ وأعوانه وعماله، ثمَّ يدخل بالعدوى إلى كلّ البيوت، ولا سيما بيوت الطبقات العليا التي تتمثَّل بها السفلى. وهكذا يغشو الفساد، وتمسي الأمة يبكيها المحبُّ ويشمت بها العدو، وتبيت وداؤها عياء يتعاصى على الدواء" فالاستبداد والمستبد أصل كل داء".